جاء الإسلام بتشريعات تؤدى في أوقات محدودة، منها الصيام والحج، قال تعالى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وقال:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
والإسلام عُني بضبط شهر رمضان بالذات؛ لأن كمال عدته لا يكون إلا بصيام جميع أيامه، وعلق ذلك على رؤية الهلال، فقال صلى الله عليه وسلم:
«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» [رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة]، وقال:
«لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له» [رواه البخاري ومسلم عن عبد اللَّـه بن عمر]، وقال:
«إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا» [رواه مسلم عن أبي هريرة]، وغبي بمعنى غم، أي خفي عليكم
شروط الرؤية
- أن تكون بعد مولد الهلال، ومكثه مدة بعد غروب الشمس بحيث يتمكن من رؤيته، على خلاف في مقدار هذه المدة كما سبق. فلو دل الحساب الدقيق المقطوع به على عدم مولده، وعدم مكثه المدة الكافية لرؤيته رفض الخبر أو الشهادة؛ لأنهما في هذه الحالة ظنيان فلا يقدمان على القطعي.
2- ألا تكون هناك غيوم أو عوائق أخرى تحول دون الرؤية.
3- اعتبار مكان الراصد وارتفاعه، وذلك لاختلاف الأماكن التي يظهر فيه الهلال على الأرض.
4- أن يكون الرائي عدلاً بمقومات العدالة التي وضعها العلماء.
5- سلامة بصره، ومهارته وتمرسه على المشاهدة، وتكرارها؛ بحيث لا تكفي مرة في لحظة واحدة.
6- خلوه من العوامل النفسية التي قد تهيئ له الشيء على أنه هلال، وهو ما يُعرف بالهلوسة البصرية، كما يقول علماء الطب الثقات.
الحساب الفلكي:
لكن إذا لم تمكن الرؤية للظروف الجوية مثلاً، فماذا يكون العمل لإثبات دخول الشهر؟
إن الحديث الشريف أجاب على هذا السؤال بقوله:
«فإن غم عليكم فاقدروا له»، ولكن كيف نقدر له؟ إن الاختلاف في الإجابة أيضًا نشأ عنه مذهبان:
1- مذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف، الذي يعتمدون على الرؤية فقط إن أمكنت، أو إتمام الشهر ثلاثين يومًا إن لم تمكن؛ لأن الروايات الأخرى للحديث نصت على ذلك، وخير ما يفسر به الحديث ما يرد في رواية أخرى له.
والإمام أحمد فهم عبارة
«فاقدروا له» على أنها البحث والتقصي تحت السحاب، فإن رؤي الهلال وجب الصيام حتى لو كانت عدة شعبان تسعة وعشرين يومًا، والكل متفقون على أن الرؤية إذا لم تمكن لا يرجع إلى الحساب الفلكي، بل إلى إتمام الشهر الثلاثين.
وحجتهم في ذلك تقوم على أمرين:
أحدهما: إعمال النص، وهو رواية البخاري ومسلم في تعليق الصيام والفطر على الرؤية، وإلا فعلى إتمام الشهر.
وثانيهما عدم الثقة فيما يقوله الفلكيون في هذا الموضوع بالذات، سواء منهم المنجمون الذين يربطون دخول الشهر بنجم معين، والحاسبون الذين يعتمدون في ذلك على سير القمر في منازله.
وعدم الثقة هذه إما لأنهم يعتمدون على ميلاد الهلال في تقدير أوائل الشهور حتى لو لم تكن رؤيته، وإما لعدم اتفاقهم على طريقة جبر الكسور من اليوم ليكون بعض الشهور ناقصًا وبعضًا كاملاً، وإما لاختلافهم في تقدير المدة التي يجب أن يمكثها الهلال بعد غروب الشمس حتى تمكن رؤيته، كما تقدم ذكره.
2- مذهب من يقول بالأخذ بالحساب الفلكي عند عدم التمكن من رؤية الهلال، الذي يفسر ما جاء في الحديث
«فاقدروا له»، ومن القائلين بذلك ابن سريج ومطرف بن عبد اللَّـه، وابن قتيبة وآخرون.
ورده الجمهور بما جاء في
(فتح الباري لابن حجر): قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس ممن يعرج عليه في مثل هذا، ولا كما نقله ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: «فاقدروا له» خطاب لمن خصه اللَّـه بهذا العلم، وقوله:
«فأكملوا العدة...» خطاب للعامة؛ لأنه ـ كما قال ابن العربي أيضًا ـ يستلزم اختلاف وجوب رمضان، فيجب على قوم بحساب الشمس والقمر، وعلى آخرين بحساب العدد. قال: وهذا بعيد عن النبلاء،
(نيل الأوطار للشوكاني، ج4، ص201