تغنت أم كلثوم من كلمات محمود بيرم التونسي (يا نيل أنا
وإللي أحبه نشبهك في صفاك)، وتغنى معها كل محب لهذا النهر بصفائه أو عكره
أو فيضاناته التي كانت تأتي على الأخضر واليابس والضرعُ في سنين عِجَافٌ و
أخرى سِمَانٍ.
ولم يكن جمال عبد الناصر أول من فكر في إنشاء سد على مجرى نهرُ النيل للحد
من أخطار الفيضانات، ولكن الفكرة قديمة قِدم حكايات عروسُ النيلِ التي كانت
تُرمى سنويا بين أحضانه تقرُباً له ودفعاً لشروره.
فقد أدرك المصريين أهمية النيل منذ أقدم العُصور، فأقيمت مشروعات التخزين
السنوي مثل (خزان أسوان) وخزان (جبل الأولياء) على مجرى النيل للتحكم في
إيراد النهر المتغير، كما أقيمت أنواع من القناطر المختلفة للتخزين السنوي.
ولكن إيراد النهر كان يختلف اختلافاً كبيراً من عام إلى آخر ، فيرتفع إلى
نحو (151) مليار متر مكعب من المياه ، أو يهبط إلى (42) مليار متر مكعب
سنويا. وهذا التفاوت الكبير من عام لآخر جعل الاعتماد على التخزين السنوي
أمراً بالغ الخطورة حيث يمكن أن يُعرض الأراضي الزراعية للبوار، وذلك في
السنوات ذات التدفق المنخفض.
والتاريخ يذكر لنا كيف أن الرئيس جمال عبد الناصر كان أول من نفذ حين قام
بتأميم شركة قناة السويس في (26) يوليو (1956م) حتى يخصص العائد منها
لتمويل بناء السد العالي، وذلك بعد أن سَََحب (البنك الدولي للإنشاء
والتعمير) عرضه بخصوص تمويل المشروع في ذلك الوقت.
وما من شك في أن السد العالي قد ساعد كثيرا في التحكم بكميات تدفق المياه
والتخفيف من آثار فيضانات نهر النيل، كما أنه ظل يمد القطر المصري بالطاقة
الكهربائية منذ إنشائه بإنتاجيه تصل إلى (2100) ميجاوات.
وطول السد (3600) متر، وعرض قاعدته (980) مترا، وعرض قمته (40) مترا،
بارتفاع (111) متر. وحجم جسم السد (42) مليون متر مكعب من إسمنت و حديد و
مواد أخرى، و يمكن أن يمر خلال السد تدفق مائي يصل إلى (11000) متراُ
مكعباً من المياه في الثانية الواحدة.
وقد بدأ بناء السد في عام (1960م) بعد أن قُدرت التكلفة الإجمالية بمليار
دولار (400 مليون جنية مصري في حينها) . ويشار إلى أنه قد تم بناء السد
بتعاون مع الحكومة السوفيتية حيث عمل (400) خبير سوفييتي ضمن فريق العمل
المنفذ. و افتتح السد رسمياً في سنة (1970م).
ويعتبر السد العالي من المشروعات ذات العائد الاقتصادي المرتفع جدا إذا ما
قورن بمثيله من المشروعات العالمية الأخرى ، إذ بلغ العائد خلال العشر
سنوات الأولى لإنشائه ما لا يقل عن عشرين ضعفاً مما أنفق عليه. ولكن السد
لم يكن مفيدا بالمطلق حيث ظهرت له أضرار بيئية وبنيوية وسياسية بعد ذلك،
بحيث أدى إلي تقليل خصوبة النهر من الطمي ، واتساع رقعة بحيرته (بحيرة
ناصر) التي أدت إلى طمر عدد كبير من القرى والمدن الأثرية مثل (معابد أبو
سنبل) وغيرها . فبحيرته الحالية تتجاوز (500) كيلو متر مربع بعرض (10) كيلو
مترات، وسعة تخزين تصل إلى (162) مليار متر مكعب من المياه. ويقع (83%) من
البحيرة في الأراضي المصرية ، بينما تقع البقية في الأراضي السودانية
والتي تسمى حاليا (ببحيرة النوبة).
ويكثر الكلام عن الأخطار المتوقعة عند حدوث أي طارئ لهذا السد (لا سمح
الله) حيث أن الدمار المتوقع أكبر من أن يوصف. وهذا ما شجع العدو
الإسرائيلي للتلميح دوما بإمكانية وضع السد العالي كنقطة أولى للتهديد
السياسي العسكري!.
وإذا كان سد شعب بلقيس اليمن (مأرب) قد عانى من الإهمال حتى صار مرتعا
للقوارض ، وإذا كنا نعرف أن تقنيات وهندسة بناء مثل هذه السدود تختلف في كل
عام عن الذي قبله، فإنه من الجلي والأولى للدولة المصرية أن تحزم أمرها
لمعالجة ما هو موجود على أرض الواقع ، أو ما هو محتمل من أضرار هذا السد
والاستفادة القصوى من وجوده. فالمنطق يقول أن بناء (سد رديف) لهذا السد حلٌ
قد يكون مجديا في حالة حصول أي تسربات أو صدوع في هيكل البناء القديم.
ويمكن أن يكون هذا السد الرديف في أي مكان مُنتخب حتى ولو كان بعيداً عن
مكان السد القديم. كما أنه ومن المنطِق أن يتم الاستفادة من مياه هذه
البُحيرة العملاقة والحد من توسُعها بأن تنشى ممراتٍ مائية ضخمة من البحيرة
تتوزع على جميع مناطق القطر المصري، وهذا ما سيحيل الصحاري المصرية إلى
جنان خضراء يمكن أن تكون مصدرا عظيماً للدخل القومي يفوق بكثير معدلات
الدخل الحالية. كما أنه من الممكن الاستفادة من كميات الطمي المفيد جدا
للزراعة بنقله وتوزيعه على المناطق الزراعية داخل وخارج القطر.
وعندها سيكمل المصريين مع بيرم وثومة (أنا وحبيبي يا نيل نلنا أمانينا،
مطرح ما يسري الهوى ترسي أمانينا، ما لناش لا إحنا ولا أنت في الحلاوة
مثيل، يا نيل).