لما كثر مؤخرا الخلط
بين النصح والتعيير وبين الأسلوب الذي قد يستعمله الشخص للنصح وجب علينا أن
ننبه إخواننا لكي يخرجوا من هذا الخلط العظيم .
قال الإمام الحافظ زين الدين ابن رجب الحنبلي في
كتابه الفرق بين النصيحة والتعيير : فصل أنواع النصيحة
ومن عُرف منه أنه أراد بردِّه على العلماء النصيحة لله ورسوله فإنه يجب أن
يُعامَل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرهم
وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان .
ومن عرف منه أنه أراد برده عليهم التنقص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن
يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة .
ويُعرف هذا القصد تارة بإقرار الرادِّ واعترافه ، وتارة بقرائن تحيط بفعله
وقوله ، فمن عُرف منه العلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم لم
يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا على الوجه الذي يراه غيره من أئمة العلماء .
وأما في التصانيف وفي البحث وجب حمل كلامه على الأول ومن حمل كلامه [على
غير ذلك ] – والحال على ما ذُكر – فهو ممن يَظن بالبريء الظن السوء وذلك من
الظن الذي حرمه الله ورسوله وهو داخل في قوله سبحانه :
(
|
| بسم الله الرحمن الرحيموَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً |
|
) (النساء:112) ،
فإن الظن السوء ممن لا تظهر منه أمارات السوء مما حرمه الله ورسوله فقد جمع
هذا الظانّ بين اكتساب الخطيئة والإثم ورمي البريء بها.
ويقوي دخوله في هذا الوعيد إذا ظهرت منه – أعني هذا الظان – أمارات السوء
مثل: كثرة البغي والعدوان وقلة الورع وإطلاق اللسان وكثرة الغيبة والبهتان
والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله والامتنان وشدة الحرص على المزاحمة
على الرئاسات قبل الأوان .
فمن عُرفت منه هذه الصفات التي لا يرضى بها أهل العلم والإيمان فإنه إنما
يحمل تَزْمنة العلماء [وإذا كان ] ردُّه عليهم على الوجه الثاني فيستحق
حينئذٍ مقابلته بالهوان ومن لم تظهر منه أمارات بالكلية تدل على شيء فإنه
يجب أن يحمل كلامه على أحسن مُحْمَلاتِهِ ولا يجوز حمله على أسوأ حالاته .
وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه : (
لا تظن بكلمة خرجت
من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ) .
فــصل كـيفيتهـا
ومن هذا الباب أن يقال للرجل في وجهه ما يكرهه فإن كان هذا على وجه النصح
فهو حسن وقد قال بعض السلف لبعض إخوانه : ( لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما
أكره) .
فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسناً لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن
يعتذر منها إن كان له منها عذر
وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو
قبح مذموم .
وقيل لبعض السلف : أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال : ( إن كان يريد أن
يوبخني فلا ) .
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن
تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها فتجلد حداً ولا تعير بالذنب ولا
توبخ به .
وفي الترمذي وغيره مرفوعاً : " من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله " .
وحُمل ذلك على الذنب الذي تاب منه صاحبه . قال الفضيل : (
المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعيِّر ) .
فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير ، وهو أن النصح يقترن به
الستر والتعيير يقترن به الإعلان .
وكان يقال : (
من أمر أخاه على رؤوس الملأ فقد عيَّره
) أو بهذا المعنى .
وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون
أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور فإن هذا من علامات النصح فإن الناصح
ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع
فيها .
وأما إشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله قال الله تعالى : (
|
| بسم الله الرحمن الرحيمإِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ |
|
) (النور:19)
والأحاديث في فضل السر كثيرةٌ جدَّاً .
وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف : (
واجتهد أن
تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام أحقُّ شيء بالستر : العورة ) .
فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير وهما من خصال الفجار لأن الفاجر
لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب إنما
غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه فهو يعيد ذلك ويبديه
ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليُدخل عليه الضرر
في الدنيا .
وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن واجتنابه له وبذلك وصف الله
تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :
(
|
| بسم الله الرحمن الرحيملَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ |
|
)
(التوبة:128)
ووصف بذلك أصحابه فقال :
(
|
| بسم الله الرحمن الرحيممُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً |
|
) (الفتح:29) .
ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة .
وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو القوة والغلظة ومحبته إيذاء
أخيه المؤمن وإدخال الضرر عليه وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم
الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما
قال الله تعالى : (
|
| بسم الله الرحمن الرحيمإِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ |
|
)
(فاطر:6) .
وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم عليه السلام ومكرَه به حتى توصل
إلى إخراجه من الجنة :
(
|
| بسم الله الرحمن الرحيميَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا |
|
)
(لأعراف: من الآية27).
فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ولا
تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة . إنتهى كلامه رحمه الله تعالى
ونسأل الله أن يجعلنا مِن مَن يستمعون القول فيتبعون أحسنه