ثانياً :
مرحلة ما بعد الولادة حتى نهاية العام الأول :
تبدأ هذه المرحلة بخروج الجنين إلى الدنيا حيث أول محيط
اجتماعي يحيط به ، لذا فإنها تعد الأساس في البناء الجسدي والعقلي
والاجتماعي للطفل ، ولها تأثيرها الحاسم في تكوين التوازن الانفعالي
والنضوج العاطفي ، فلا عجب إذن أن يركز المنهج الاسلامي على إبداء عناية
خاصة بالطفل في هذهِ المرحلة، "فالطفل في أيامه الأولى، وبعد خروجه من
محضنه الدافئ الذي اعتاد عليه فترة طويلة يحتاج إلى التغذية الجسمية
والنفسية ليعوِّض ما اعتاده وأِلفه وهو في وعاء أمه ."(11)
لذا نرى المولى سبحانه يوصي الأم بأن ترضع طفلها
حولين كاملين ، ويجعل هذا حقاً من حقوق الطفل ، كما نراه –عز وجل - يكفل
للأم في هذه الفترة الطعام والكساء هي ورضيعها ،كما جاء في قوله سبحانه
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف)البقرة:233]
ولقد فطن العرب منذ آلاف السنين إلى تأثير فترة
الرضاعة على تكوين شخصية وطباع الطفل فكانوا يختارون لأبنائهم المرضعة حسنة
الخُلُق ، الودودة .
ولطالما عجبت كاتبة هذه السطور من السيدة "آمنة بنت وهب" التي ألقَت
بوليدها الوحيد بين أحضان امرأة أخرى يلتقم ثدياً غير ثديها، وينهل من حنان
غير حنانها، وهي التي مات عنها زوجها ، وهي بعد لم تزل عروسا ً زُفت إليه
منذ شهور...ولكن التفكير في مصلحة الوليد كان فوق كل هذه المشاعر
والأحاسيس، فقد كانت مكة تعد بلاد حَضَر، وكان العرب يرجون لأبناءهم جوا
ًبدوياً ينشئون فيه " لكي يبتعدوا عن أمراض الحواضر، و تقوى أجسامهم ،
وتشتد أعصابهم، ويتقنون اللسان العربي في مهدهم "(12)
كما كانت الصحابيات-رضوان الله عليهن - يُغنِّين
لأطفالهن من الذكور أثناء الرضاعة أغاني تُحفِّز على البطولة والرجولة ،
لترسخ هذه المعاني في أذهانهم منذ نعومة أظفارهم!!!
فما بالنا بالأم التي ترضع وليدها على نغمات القرآن المرتل بصوتٍ ندي ....
ألا يعينه ذلك على حب القرآن الكريم؟!!
وفي عصرنا الحالي ، نرى "علماء النفس -على اختلاف مشاربهم- يولون هذه
المرحلة أهمية قصوى باعتبارها الهيكل الذي تُبنى الشخصية على أساسه. ،
فنراهم يُجرون دراسات حول ما يسمى بذكاء الرضيع ، ثم يقومون بمحاولات
تربويية لاستغلال هذه الفترة في تنشئة أطفال عباقرة "(13)
ومن ثم ، فإن الأم التي تُرضع طفلها على صوت ندِيٍ يتلو
القرآن الكريم ، فإن الراحة و السكينة والاطمئنان والحنان الذين يشعر بهم
الطفل وهو بين أحضان أمه سيرتبطون في عقله اللاواعي بالقرآن الكريم... ومن
ثَمَّ يصبح القرآن بالنسبة للطفل- فيما بعد- مصدرا ًللأمن والاطمئنان
والسعادة ، ونوعاً آخر من الزاد الذي يشبع قلبه وروحه ،كما كانت الرضاعة
تشبع بطنه وتُسعد قلبه، فإذا كانت الأم هي التي تتلو القرآن مجوَّداً ، فإن
ذلك يكون أقرب لوجدان الطفل وأشد تأثيراً فيه ، وأهنأ له ولأمه .
ولنا أن نتخيل هل سيظل طفل كهذا يصرخ طوال الليل أو يكون نومه مضطرباً وهو
محفوف بالملائكة بسبب القرآن الكريم ؟!!!!
ولعل الفائدة ستعم أيضاً على الأم، حيث يعينها الاستماع إلى القرآن على
هدوء النفس وراحة الأعصاب في هذه الفترة، مما يجنِّبها ما يسمى باكتئاب ما
بعد الولادة الذي تُصاب به معظم الوالدات .
ثالثاً:في العام الثاني من حياة الطفل:
تلعب القدوة -في هذه المرحلة- دورا ًهاماً ورئيساً في توجيه سلوك الطفل،
لذا فإنه إذا شعر بحب والديه للقرآن من خلال تصرفاتهما فإن هذا الشعور سوف
ينتقل إليه تلقائياً ، ودون جهد منهما ،
فإذا سمع أبيه يتلو القرآن وهو يصلي جماعة مع والدته ،
أو رأى والديه –أو مَن يقوم مقامهما في تربيته – يتلوان القرآن بعد الصلاة ،
أو في أثناء انتظار الصلاة ،
أو اعتاد أن يراهما يجتمعان لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة في جو عائلي
هادىء.... فإنه سيتولد لديه شعور بالارتياح نحو هذا القرآن .
وإذا لاحظ أن والديه يفرحان بظهور شيخ يتلو القرآن وهما يقلِّبان القنوات
والمحطات ، فيجلسا للاستماع إليه باهتمام وإنصات ، فإنه سيتعلم الاهتمام به
وعدم تفضيل أشياء أخرى عليه.
.وإذا رآهما يختاران أفضل الأماكن وأعلاها لوضع المصحف ، فلا يضعان فوقه
شيء ، ولا يضعانه في مكان لا يليق به ، بل ويمسكانه باحترام وحُب ... فإن
ذلك سيتسلل إلى عقله اللاواعي ...فيدرك مع مرور الزمن أن هذا المصحف شيءٌ
عظيم ، جليل ، كريم ، يجب احترامه، وحُبه وتقديسه .
من ناحبة أخرى ، إذا تضايق الطفل من انشغال والديه عنه بتلاوة القرآن و
أقبل عليهما يقاطعهما ، فلم يزجرانه ، أو ينهرانه، بل يأخذه أحدهما في حضنه
، ويطلب من الطفل أن يقبِّل المصحف قائلاً له : " هذا كتاب الله ، هل
تقبِّله؟!!" فإن الطفل سيشعر بالوِد تجاه هذا الكتاب.
وإذا رأى الأم تستمتع بالإنصات لآيات القرآن الكريم وهي تطهو أو تنظف
المنزل، ورأى نفس الشيء يحدث مع والده وهو يقوم بترتيب مكتبته مثلاً, أو
رَيّ الحديقة....فإن ذلك يجعله يفضِّل أن يستمع إليه هو الآخر حين يكبر وهو
يؤدِّي أعمالاً روتينية مشابهة
رابعاً: منذ العام الثالث حتى نهاية الخامس:
يقول فضيلة الشيخ ، الدكتور "محمد راتب النابلسي":" من دراستي في التربية
علمت أن أخطر سن في تلقي العادات والتقاليد و المبادىء والقيم ، هو سن
الحضانة، ثم سن التعليم الابتدائي .
ويستطرد شيخنا قائلاً:" إن الطفل يستطيع أن يحفظ القرآن في سِنِي حياته
الأولى ، فإذا كبر فهم معانيه، ولكن بعد أن يصبح لسانه مستقيماً بالقرآن ،
فيشب وقد تعلم الكثير من الآداب"
كما يؤكد الدكتور "يحي الغوثاني"- المتخصص في الدراسات القرآنية - أن"
الطفل إذا حفظ القرآن منذ صغره اختلط القرآن بلحمه ودمه "(14)
لذا ففي هذه السن-غالباً - يمكننا أن نبدأ بأنفسنا تعليمه تلاوة القرآن
تلاوة صحيحة، فإن لم يتيسر ذلك ، فلا بأس من اختيار معلمة أو معلم ، يكون
طيب المعشر ، لين لجانب،حازم في رفق ، ذو خُلُقٍ قويم ، واسع الأُفُق ، وأن
يكون مُحِبَّاً لمهنته... كي ينتقل هذا الحب إلى تلاميذه ، مع ملاحظة أننا
"لا ينبغي أبداً أن نُجبر الطفل على حفظ القرآن أو نضربه إذا لم يحفظ، بل
يجب أن تكون جلسة الاستماع إلى القرآن أو حفظه من أجمل الجلسات وأحبها إلى
قلبه ،وذلك من خلال تشجيعه بشتى الصور المحببة إلى قلبه، من مكافآت مادية
ومعنوية ، وغير ذلك...فإذا كان مَن يحفِّظه يتَّبع أسلوباً عنيفاً أو غير
محبَّب فلنستبدله على الفور إن نهيناه ولم ينتهَِ" (15)
وهناك ملاحظة هامة ، وهي مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال :
*فإن كان طفلك غير متقبل للحفظ في هذا السن ، فعليك أن تُمهله حتى يصير
مهيَّأً لذلك، مع الاستمرار في إسماعه القرآن مرتلا ً.
*أما إذا كان لدى طفلك القُدرة والاستعداد قبل هذا العمر ، فيجب أن تنتهز
هذه الفرصة ، وتشكر الله على هذه النِّعمة ، فتشجعه وتعينه على حفظ القرآن
الكريم، كما حدث مع "زهراء" الطفلة السعودية التي حفظت سوراً من القرآن
الكريم مع إتقان كامل لمخارج الحروف..
وهي تبلغ من العمر عاماً ونصف العام !!!! (16)
***
وكذلك الطفل الإيراني "محمد حسين " الذي كانت والدته تصطحبه معها في جلسات
لحفظ القران الكريم ، وهو لم يتجاوز السنتين , وكانت وقتها تحفظ الجزء
الثلاثين من القران الكريم، فلما عادت في إحدى الأيام للبيت ، كان محمد
يلعب ويردد شيئا, اراد والده ان يسمع ما الذي يقوله بهذا الاهتمام ،
فاستغرب كثيرا عندما علم انه يردد الجزء الثلاثين من القرآن الكريم ، فذهب
الى زوجته متسائلا منذ متى و أنتِ تحفِّظينه الجزء الثلاثين من القران
الكريم ؟!!
فاستغربت الزوجة قائلة:أنا لم أفعل على الإطلاق، فذهب الوالد اليه مرة اخرى
وحاول ان يمتحنه بالجزء الثلاثين فوجد أنه يحفظه بشكل جيد . حينها علم أن
لولده ذو السنتين قابليه لحفظ القران , ففرح كثيرا وبدأ معه مشوار الحفظ
،فلما بلغ محمد سن الخامسه كان قد أكمل حفظ القران الكريم!!!
وبعد ذلك حاز محمد على شهادة دكتوراه في العلوم القرآنية من جامعة لندن
وكذلك حاز على شهادة الدكتوراه الافتخارية في علوم القران من جامعة الحجاز
!!!!
و كم هي مفيدة ومؤثرة كلمات والده الذي قال :" إن محمد حسين ليس إلا طفل
عادي قد يفوق أقرانه بالقليل من الفطنه، لكن هناك الكثير من الاطفال
الأذكياء الذين لم يفكر أحد باستغلال ذكائهم ، فالذي ساعد ابني هو أنني في
البيت مع زوجتي واطفالي نردد القران في الصباح والمساء وان سكتنا نَسمعه من
المسجل أو التلفزيون فكيف لا يحفظ القران طفل مثل علم الهدى؟(هذا هو اللقب
الذي يلقِّبه به أبوه )
وينصح والده الآباء قائلاً:""لكي يكون لديك طفل مثله عليك أنت أن تغير ما
في نفسك كي يسير طفلك في مَسارك"!!!
ويختم والده كلامه قائلاً:""في النهاية أود أن أقول أنه كلما ردَّدَ ابنك
أغنية، فأعلم انه قادر على أن يحفظ ويردد القرآن كما حفظ تلك الأغنية!!!(
17)
***