منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: قصة الرِّدَّة السبت يونيو 26, 2010 10:41 pm | |
| قصة الرِّدَّة
ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول r حتى ارتدت!! ولم يبقَ على الإسلام إلا المدينة المنورة ومكة والطائف وقرية جُواثَى بالبحرين، ولكنَّ الله U مَنَّ على هذه الأمة بالصِّدِّيق أبي بكر t، الذي استطاع أن يقمع فتنة المشركين والمرتدين.
كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات؛ فمن العرب من منع الزكاة، ومن العرب من ترك الإسلام وعاد إلى عبادة أصنام، ومن العرب من سارع بادِّعاء النبوة، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفي الكذَّاب، والأسود العنسي، وطليحة بن خويلد، وسَجَاح.
وأسباب حدوث الرِّدَّة تتمثل في جهل العرب بحقيقة الرسول r وحقيقة الرسالة؛ إذ دخل أعداد كبيرة من العرب في العامين الأخيرين من حياة الرسول r انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، فمنهم من جاء رغبًا في المال والغنائم، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم. ومن ثَمَّ كانت القبليَّة هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام، واعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسَّسَها.
ومع هذه الأحوال العاصفة أصرَّ الصِّدِّيق t على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لقتال الروم؛ وذلك لوصية الرسول r قبل وفاته. وبالفعل خرج جيش أسامة إلى أطراف الشام، وقد فرَّت منه الجيوش الرومانية في هذه المنطقة، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدت فقاتلهم، وشتَّت شملهم وهزمهم، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصِّدِّيق t في المدينة، ومعه الغنائم من هذه الموقعة. وخروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبةً من المسلمين؛ مما جعلهم يظنُّون أن للمسلمين قوةً في المدينة.
وقد رفض أبو بكر t عرض القبائل بأن يقبل منهم الصلاة ويرفع عنهم الزكاة، وأصر t على قتال من فرّق بين الصلاة والزكاة، وقتال المرتدين أيضًا. بعد ذلك قام الصديق t أولاً بحراسة المدينة المنورة حراسة مستمرة، ثم قام بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنورة، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدين يدعوهم للعودة إلى ما خرجوا منه، وهدَّدهم وتوعَّدهم؛ وذلك ليُلقِي الرهبة في قلوبهم.
جهز الصديق t 11 جيشًا كاملاً لحرب المرتدين في وقت متزامن، ومع أن أعداد جيوش المسلمين لم تكن كبيرة، فإنها كانت جيوشًا منظَّمة, راغبةً في الجهاد في سبيل الله. وحدَّد الصديق t اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر، فوُزِّعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا، بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملاً، فلا تبقى قبيلة أو منطقة إلا وفيها من جيوش المسلمين. وبفضل الله U كتب الله النصر للمسلمين في كل المواقع، ولم يبقَ في الجزيرة العربية مرتدٌّ واحد.
فتنة الرِّدَّة
ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول r حتى ارتدَّتْ!! ولم يبق على الإسلام إلا المدينة المنورة، ومكة، والطائف، وقرية جُوَاثَى في منطقة البحرين بشرق الجزيرة العربية، وحتى هذه الأماكن -باستثناء المدينة المنورة- كانت على شفا حُفرة من الرِّدَّة، لولا أن ثبَّتهُمُ الله U برجال صادقين فيهم من أمثال "سهيل بن عمرو" في مكة فثبَّت الناس فيها على الإسلام، و"الجارود بن يعلى" في جُوَاثَى حيث خطب فيهم ودعاهم للإيمان بالله وبرسوله حيًّا أو ميِّتًا، فلمَّا ثبتت جُواثى على الإيمان حاصرتها قوى البغي والردة من البحرين، ومنعوا عنها الطعام حتى كادت أن تهلك إلى أن أذن الله لها في النجاة.
نِعْمَة الصِّدِّيق t
كان من الممكن أن تكون لهذه الفتنة العظيمة آثارٌ وخيمة، لولا أن الله U مَنّ على الأمَّة في ذلك الوقت بنعمة عظيمة هائلة، تلك هي نعمة الصِّدِّيق t. فالله U أيَّد به هذه الأمة، وحفظ به الدين والقرآن، وقمع به المشركين والمرتدين. يقول أبو هريرة t يصف هذا الموقف المتأزم: "والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استُخْلِفَ ما عُبِد اللهُ". ولا ننسى أن مصيبة الردة هذه جاءت بعد أيام قلائل من مصيبة أخرى كبيرة، هي مصيبة وفاة الرسول r. ولا شك أن مصاب الصِّدِّيق كان كبيرًا، فهو أقرب الناس إلى رسول الله r، وأشدهم حزنًا على فراقه، ولكن الله U رزقه نعمة الثبات، والثبات نعمة جليلة لا توهب إلا لمن كان مؤمنًا حقًّا.
وقد كان ارتداد الجزيرة العربية على درجات؛ فمن العرب من منع الزكاة، ومن العرب من ترك الإسلام كله، وعاد إلى ما كان يعبد من أصنام، ومن العرب من لم يكتفِ بالردة ويترك المسلمين في شأنهم، بل انقلبوا على المسلمين الذين لم يرتدوا، فقتلوهم، وذبحوهم، وفعلوا بهم أشنع المنكرات، ومن العرب من سارع بادِّعاء النُّبُوَّة، ومن أشهر هؤلاء مسيلمة الحنفيّ الكذاب، والأسود العنسيّ، وطليحة بن خويلد، وسَجَاح.
| |
|
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: قصة الرِّدَّة السبت يونيو 26, 2010 10:43 pm | |
| أسباب حدوث الردة
الواقع أن هناك أعدادًا ضخمة من العرب دخلوا في الإسلام في العامين الأخيرين من حياة الرسول r، فيما عرف في التاريخ بالوفود، ولم يدخل هؤلاء في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، فجاء الناس أفواجًا يدخلون في دين الله U، ولكن ليس كلهم عن اقتناع؛ فمنهم من جاء رغبًا في المال والغنائم، والارتباط بالقوة الأولى الجديدة في الجزيرة، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم، فَسَاقهم زعماؤهم كالقطيع فدخلوا في دينٍ لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة الرسول r وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن، ولا مع السُّنَّة. فلما مات الرسول r اعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسَّسَها كما تنهار الكثير من الأعمال المعتمدة على شخص بعينه إذا غاب هذه الشخص، وفوق ذلك هم لم يأخذوا الفرصة الكاملة والوقت المناسب لفقه حقيقة الإيمان، فدخلوا في الإسلام ولم يفقهوا حقيقته بعدُ. ولم تكن المشكلة فقط في عوامِّ الأعراب، ولكن كانت أيضًا في زعمائهم؛ فالقبائل العربية ما تعودَّتْ مطلقًا على القيادة الجماعية، بل كان كل زعيم قبيلة زعيمًا في مكانه وقبيلته، يأمر فيُطَاع، ويُشير فلا رادَّ لكلمته، وفجأة ضاعت زعاماتهم، وذابت في الدولة الإسلامية، ولم يقبل غالبهم بذلك، فلما مات رسول r بحث كل منهم عن زعامته المفقودة، وباعت الأعراب كل شيء في سبيل القبيلة. ومع ذلك فالصورة النهائية للوضع، هي حرب بين الحق والباطل، هي السُّنَّة الكونية الطبيعية جدًّا، لقد كانت القبليَّة هي القناع الذي وقف وراءه أعداء الإسلام في ذلك الوقت لحرب الإسلام، أمَّا الهدف العميق الأصيل، فهو حرب الإسلام ذاته. ودليل ذلك أن المرتدِّين قتلوا المسلمين في قبائلهم نفسها، فانقلب مسيلمة الكذاب الحنفي على المسلمين من بني حنفية فقتلهم، وكذلك فعل طلحة، وفعل غيرهم. بعث أسامة
كان الرسول r قد أوصى بإنفاذ جيش أسامة بن زيد لقتال الروم قبل وفاته، وجهّز الجيش، وخرج الجيش على مشارف المدينة، ولكنهم لمَّا علموا بمرض الرسول r لم يخرجوا، فكان أول قرار يأخده أبو بكر الصِّدِّيق t في الخلافة، هو قرار إنفاذ بعث أسامة بن زيد، ولكن الجزيرة العربية كلها ارتدتْ عن الإسلام، وكلها تتوعَّد المدينة، وهذا الجيش الخارج من المدينة لم يكن موجَّهًا إلى من ارتدوا، ولكن كان موجهًا إلى الرومان، ولم يكن في منطقة قريبة من المدينة حتى يستطيع أن يأتي إليها إذا داهمها المرتدُّون، بل كان خارجًا إلى مشارف الشام، ومع ذلك أصرَّ أبو بكر t أن يُنفِذَ هذا الجيش مع كل ما يحيط بالمسلمين من خطورة. فثار عليه بعض الصحابة، وكلموه في ذلك، فقال لهم كلمة تسجل بحروفٍ من نور: "والله لا أحلُّ عقدةً عقدها رسول الله r، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزَنَّ جيش أسامة". وبالفعل يخرج جيش أسامة بن زيد، فتكلمه الصحابة في أمير الجيش، ويأتى له عمر بن الخطاب t، ويقول: "لو اتخذت أميرًا غير أسامة بن زيد". وكان سِنُّهُ يومئذِ 17 أو 18 عامًا، يطلب منه عمر أن يُنَصِّبَ أميرًا أكثر حكمة منه؛ لأن الأمر صعب. فيمسكه أبو بكر t من لحيته ويهزُّه ويقول له: "ثكلتك أمُّك يابن الخطاب! أمنع أميرًا أمَّرَهُ رسولُ الله r عن إمارة جيشه؟!". ويخرج بعث أسامة بن زيد من المدينة إلى مشارف الشام, والجزيرة العربية كلها مُتَأجِّجَةٌ في نار الردَّة. لما خرج الجيش إلى أطراف الشام فرَّت منه الجيوش الرومانية في هذه المنطقة، فلم يلقَ قتالاً، فوجد بعض القبائل في هذه المنطقة ارتدَّتْ، فقاتلهم، وشتَّتَ شملهم، وهزمهم، وعاد بسرعة إلى أبي بكر الصِّدِّيق في المدينة، ومعه الغنائم من هذه الموقعة. وخروج الجيش إلى شمال الجزيرة أحدث بكل القبائل العربية الموجودة في هذه المنطقة رهبةً من المسلمين؛ مما جعلهم يظنُّون أن للمسلمين قوةً في المدينة، وأن هذا جزءٌ صغير من الجيوش، فقرَّرَتْ عدم الهجوم على المدينة وإيثار السلامة، مع أنه لم يكن هناك جيش بالمدينة، إلا أنها كانت حكمة من الله U ألهم بها نبيَّه، ووفَّق لها أبا بكر، فكانت هذه فائدة عظيمة من خروج جيش أسامة بن زيد t. | |
|
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: قصة الرِّدَّة السبت يونيو 26, 2010 10:45 pm | |
| موقف الصحابة من الرِّدَّة
رأى الصحابة y أن الجزيرة العربية قد ارتدت بكاملها تقريبًا، ورأوا أيضًا أن المدينة المنورة العاصمة أصبحت خالية تقريبًا من الجنود، وذلك عندما كان جيش أسامة في الشام. ورأوا كذلك أن هناك بعض القبائل القريبة من شمال المدينة قد أعلنت ردَّتها، وهي في ذات الوقت علمت بخروج جيش المدينة إلى الشام، وكانت هذه القبائل قد أرسلت رسولاً مرتدًّا هو عيينة بن حصن الفزاري، ومعه الأقرع بن حابس؛ ليفاوضا المسلمين في المدينة في أن يقبل أبو بكر منهم الصلاة، ويرفع عنهم الزكاة، في مقابل أن يرفع المرتدُّون أيديهم عن المدينة. في هذا الجو المشحون جاء الصحابة إلى أبي بكر y يعرضون عليه قَبُول طرح عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، بل إعطاءهما بعض المال؛ وذلك لتحييدهما، وتخفيف ضغط الأزمة. لكن الصِّدِّيق t كان له رأي آخر، وهو أن يقاتلهم، وعارض عمر بن الخطاب وكلُّ الصحابة y أبا بكر في قتال المرتدين، وكان عمر يتكلم عن تلك الطائفة من المسلمين التي ترفض دفع الزكاة فقط, ولم تترك الإسلام كُلِّيَّة، فهو يعارض أبا بكر في قتالهم؛ لأنهم لم ينكروا الألوهية ولا الرسالة، أما من ارتدَّ وادَّعى النبوة، وقاتل المسلمين، وأنكر نبوَّة الرسول r، فهو متفق معه على أنهم مرتدون. فقال الصِّدِّيق t: "والله لأقاتلَنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه". ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر t على قتال المرتدين ومانعي الزكاة، ناقشوه في المشكلة الثانية: أين الجيوش التي ستحارب هؤلاء المرتدين؟! ولكن أبا بكر يردُّ عليهم بكلمات خالدة، تُكتب بحروفٍ من نور، قال: "أقاتلهم وحدي حتى تنفرد سالفتي". أي: حتى تُقطع رقبتي. ودخلت كلمات أبي بكر t في قلوب الصحابة فلم تترك شكًّا, ولا تَحَيُّرًا إلا أزالته. ويظهر لنا هنا عامل مهم من عوامل الخروج من الأزمة، وهو العلم؛ فقد كان أبو بكر الصِّدِّيق t أعلم الصحابة، وما أكثر ما ضلَّ المخلصون لغياب العلم! فالإخلاص وحده لا يكفي، والنوايا الحسنة فقط لا تكفي، والتضحية الكاملة وحدها لا تكفي، إنما يجب أن يكون كل ذلك مصقولاً ومسبوقًا بالعلم. ولعلنا هنا نفهم لماذا بدأ القرآن الكريم في النزول بآيات تحثُّ على العلم. محاربة المُرتدِّين
قام الصِّدِّيق t أولاً بحراسة المدينة المنورة حراسة مستمرة، فوضع الفرق العسكرية في كل مداخل المدينة، ثم قام بمراسلة كل القبائل التي بقيت على الإسلام لتوافيه في المدينة المنورة، وأقام مُعَسْكَرًا للجيوش الإسلامية في شمال المدينة، وأرسل رسائل شديدة اللهجة إلى كل قبائل المرتدين يدعوهم فيها إلى العودة إلى ما خرجوا منه، وإلاَّ حاربهم أشدَّ المحاربة، وهدَّدهم وتوعَّدهم، وذلك ليُلقِي الرهبة في قلوبهم، كنوعِ من الحرب النفسيَّة على المرتدِّين. وبدأ الصِّدِّيق t في تجهيز مجموعة من الجيوش الإسلامية التي ستخرج لحرب المرتدين في وقت متزامن، فجهز 11 جيشًا كاملاً. ومع أن كل جيش لم يَعْدُ أن يكون ألفين أو ثلاثة، أو بالكاد خمسة آلاف، ولكنها كانت جيوشًا مُنَظَّمة, راغبةً في الجهاد في سبيل الله, فاهمةً لقضيتها, معتمدة على ربِّها، ومن كانت هذه صفته فيُرجى له النصر إن شاء الله. وحدَّد الصِّدِّيق t اتجاه كل جيش من هذه الجيوش الأحد عشر، فوُزِّعت هذه الجيوش على الجزيرة توزيعًا دقيقًا؛ بحيث تستطيع تمشيط كل رقعة منها تمشيطًا كاملاً، فلا تبقى قبيلة أو منطقة إلا وفيها من جيوش المسلمين، وكانت قيادة الجيوش الإسلامية، ومسارح عملياتها على الصورة التالية: الجيش الأول قاد خالد بن الوليد t ذلك العبقري المسلم الفذّ الجيش الأول، وكان عدد الجيش 4000 مجاهد وكان أكبر الجيوش، إلاَّ أن المهمَّة كانت صعبة؛ فقد كان متجهًا إلى حرب طيئ أولاً، ثم بني أسد تلك القبيلة الخطيرة التي يقودها طليحة بن خويلد الأسدي، ثم بني تميم وفيهم مالك بن نُويرة، فإذا انتهى من كل هذا بنجاح فإن عليه أن يتوجه إلى بني حنيفة؛ لمقابلة أخطر جيوش المرتدين، وعلى رأسها مسيلمة الكذاب، وذلك لمساعدة الجيشيْن الثاني والثالث. وكان مع خالد في جيشه عدي بن حاتم الطائي t، فلما مرَّ المسلمون على قبائل طيئ -وهي قبيلة عدي بن حاتم، وقد ارتدَّتْ معظم القبيلة إلا فرعين أحدهما يُدعى غوث، والآخر يسمَّى جديلة- وقف عدي بن حاتم في منطقة غوث، وحضَّهم على الإيمان، فوافقت القبيلة، وثبتت على إسلامها، وأتى منها بخمسمائة مجاهد لم يرتدوا. ثم ذهب عدي بن حاتم لجديلة وكلمهم، فثبتت على إسلامها أيضًا، فأتى منها بخمسمائة رجل، فأصبح جيش المسلمين 5000 مجاهد، فانطلق خالد إلى طليحة الأسدي، فهزمه هزيمة نكراء، وفرَّ طليحةُ بن خويلد نفسه، ثم بعد ذلك أراد الله له الخير، فأسلم وشارك في الفتوح. وصل خالد بعد ذلك إلى قبيلة بني تميم، فوجدهم قد دخلوا في الإسلام كما خرجوا منه؛ لمَّا رأوا انتصار المسلمين على جيوش بني أسد، وكان الصِّدِّيق t قد أوصى أمراء الجيوش أنهم إذا سمعوا الأذان في الحيِّ وإقامة الصلاة نزلوا عليهم، فإن أجابوا إلى أداء الزكاة، وإلاّ الغارة، فجاءت السرية حيَّ مالك بن نويرة، فأسر خالد بن الوليد مجموعة منهم فيهم مالك بن نويرة نفسه. وهناك اختلاف شديد على تصرُّف خالد بن الوليد في مالك بن نويرة وبعض الأسرى الآخرين, والتفسير الأقرب إلى الصحة أن خالد بن الوليد قال لبعض الحرّاس الذين يحرسون الأسرى: أدفئوا أسراكم؛ لأنها كانت ليلة شديدة البرد، ولكن مجموعة من الحرّاس في لغتهم إذا قالوا: أدفئوا الرجل. يعنون: اقتلوه. فقتلوا الأسرى، وبدءوا بمالك بن نويرة قائد القوم، فقتلوا منهم عددًا، حتى بلغ خالد بن الوليد ذلك، فقال: حسبكم. الجيش الثاني وكان هذا الجيش متجهًا إلى قبيلة بني حنيفة التي فيها مسيلمة بن حبيب الكذاب، ولنتحدث قليلاً عن تاريخ بني حنيفة، وكيف بدأت الردة فيهم. قُبيل وفات رسول الله r، قدمت الوفود من كل الجزيرة العربية تبايع الرسول r على الإسلام، وكان من ضمن هذه الوفود، وفد بني حنيفة، وكان من عادته r أنه إذا جاء قوم يبايعونه على الإسلام أن يعطيهم عطاءً ليتألَّف قلوبهم، فأعطاهم، فَقَالُوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبًا لنا في رِحالِنا وفي رِكابِنا يحْفظها لنا. وكان مسيلمة بن حبيب هو الذي ظل مع متاعهم ليحرسها لهم، فأمر له رسول الله r بمثل ما أمر به للقوم، وقال: "أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا". ثم انصرفوا عن رسول الله r، وجاءوه بما أعطاه، فلما انتهَوْا إلى اليَمَامَةِ ارْتَدَّ عَدُوُّ الله، وَتَنَبّأَ، وَتَكَذّبَ لهم، وقال: إني قد أشركت في الأمر معه. وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذَكَرْتُمُونِي له: "أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرِّكُمْ مَكَانًا"؟ ما ذاك إلا لما كان يعلم أني قد أشركت في الأمر معه. فآمن له بعض قومه، وأرسل إلى رسول الله r رسالة مع رجلين من قومه قد آمنا بدعوته يقول: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، إني قد أُشركت في الأمر معك، فلنا نصف الأرض، ولكم نصف الأرض، أو تجعل لي الأمر من بعدك، ولكني أعلم أن قريشًا قوم لا يعدلون. وكتب r رسالة، وأعطاها إلى حبيب بن زيد أحد الصحابة الشباب، وقال في رسالته r: "مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن قتل حبيب بن زيد t, فأراد الرسول r أن يبعث له جيشًا يقاتله، أو يردُّه إلى الإسلام، ولكنه في ذلك الوقت r كان مشغولاً بتجهيز بعث أسامة بن زيد إلى حدود الشام. وقرر الرسول r أن يرسل إلى بني حنيفة مَن يردهم للإسلام، فاختار رجلاً منهم؛ حتى يكون أقرب للسان قومه, ولعلهم يستجيبون له أكثر من غيره، وهو صحابي اسمه نهار الرَّجَّال، فأتى هذا الرجل مسيلمة الكذاب في خيمته، وجلس معه طويلاً، اجتمع القوم مسلمهم ومرتدُّهم حول خيمة مسيلمة, وطال الحديث بين مسيلمة الكذّاب وبين نهار الرجَّال، ثم خرج نهار الرجال فسأله القوم: ما يقول محمد رسول الله r عن مسيلمة؟ فإذا بالرَّجَّال يقول: لقد أُشرك مسيلمة في الأمر مع محمد. وارتد الرجل، وانقسمت بنو حنيفة؛ فخمسون ألفًا على الإسلام، وخمسون ألفًا ارتدوا، أربعون ألفًا منهم في يوم واحد على يد هذا الرجل نهار الرَّجّال، فقويت شوكة مسيلمة بن حبيب الكذاب، وأصبح له جيش تعداده خمسون ألفًا، وانقلبوا على المسلمين من قبيلتهم يعذبونهم، وكان فيهم ثمامة بن أثال الصحابي الجليل، فبدأ ثمامة بن أثال t يقاتل مسيلمة الكذاب، لكن قوة مسيلمة الكذاب كانت أشدَّ، ووصلت الأنباء إلى بني حنيفة أن الرسول r قد توفِّي، فارتدت بقية القبيلة، الخمسون ألفًا الباقية، وأصبحت القبيلة كلها مرتدة، ولم يبقَ فيها إلا ثُمامة بن أُثال مع بعض الناس، فهربوا من القبيلة. لذلك فإنَّ أبا بكر الصِّدِّيق t وجَّه لها جيشين؛ جيش على رأسه عكرمة بن أبي جهل، والآخر على رأسه شُرحبيل بن حسنة، وأمر عكرمة ألاّ يقاتل حتى يأتيه جيش شرحبيل. كان الجيش الأول حوالي ثلاثة آلاف، والجيش الثاني كان نفس العدد، فتعجَّل عكرمة بن أبي جهل في قتال مسيلمة قبل أن يأتيه شرحبيل بن حسنة، فاجتاح جيش مسيلمة جيش عكرمة بن أبي جهل، ففرَّ جيش عكرمة وتفرَّقوا في المنطقة. ووصلت الأنباء إلى أبي بكر الصِّدِّيق t بالمدينة، فحزن حزنًا شديدًا، وعلم أن الجيش الإسلامي في طريقه إلى المدينة، فأرسل رسالة إلى عكرمة بن أبي جهل؛ ففي بداية الرسالة عَنَّفه بشدة على تسرُّعه في محاربة مسيلمة الكذاب، ثم قال له: لا ترجع بجيشك إلى المدينة، واتَّجه بجيشك إلى حذيفة بن محصن، وعرفجة بن هرثمة في اليمن، فقاتِل معهما. الجيش الثالث عسكر جيش شرحبيل بن حسنة قرب بني حنيفة منتظرًا مدد أبي بكر الصِّدِّيق t، ثم تعجَّل فهاجم بجيشه الصغير (3000 مجاهد) جيش مسيلمة الذي قد بلغ تعداده بعد الرِّدَّة مائة ألف، فحدث مع جيش شرحبيل نفس الذي حدث مع عكرمة بن أبي جهل، وأبو بكر الصِّدِّيق يحزن حزنًا شديدًا، ويرسل له أنِ امْكُثْ في مكانك، ولا ترجع إلى المدينة. الجيش الرابع وموقعة اليمامة كلف الصِّدِّيق خالد بن الوليد بقتال بني حنيفة، فجمع خالد بن الوليد جيشه بالإضافة إلى بعض الصحابة من المدينة، وأيضًا جيش شرحبيل بن حسنة، وتوجّه الجميع إلى قبيلة بني حنيفة. وبعد خروج جيش خالد من المدينة، أرسل أبو بكر الصِّدِّيق t مددًا آخر إلى خالد بن الوليد، فوصل العدد الإجمالي اثني عشر ألفًا. وفي الوقت الذي توجَّه فيه خالد من المدينة لمحاربة مسيلمة الكذاب كان هناك جيش آخر متَّجه من الشمال إلى بني حنيفة لقتالهم أيضًا، وعلى رأس هذا الجيش (سَجَاح) التي ادَّعت النبوة، وهذا الجيش -على أغلب التقديرات- تعداده يصل إلى مائة ألف، فلم تكن قوة المرتدين قوة واحدة، بل كان هدف كل قوة السيطرة على الجزيرة العربية بمفردها. فأتت (سجاح) إلى اليمامة مُدَّعِيةً أنها قد أوحي إليها أن تقاتل اليمامة أولاً، فعلم مسيلمة بمقدم جيشها، وهو ينتظر خالد بن الوليد من الناحيه الثانية، فخشي أن تجتمع عليه الجيوش، فجمع مسيلمة الكذاب أربعين رجلاً من قومه، وذهب ليتفاوض مع هذه المدَّعية، فالتقى معها في خيمتها، فعرضت عليه أن ترحل، ولا تحاربه شريطة أن يعطيها نصف ثمار اليمامة؛ ففي بادئ الأمر وافقها، ثم عرض عليها أن يتزوجها، فوافقت، وجعل صداقها أن أسقط عن قومها صلاتي العشاء والفجر. ثم أتت الأنباء إلى اليمامة أن خالدًا على مشارف اليمامة، فلما علمت بذلك سجاح خشيت على نفسها وقومها من الهلكة، وذهبت لمسيلمة لتأخذ نصف ثمار اليمامة، ولا يفكر في أمر زواجهما، وترحل هي عن اليمامة، فوافقها. ويقال بعد ذلك إنها قد أسلمت في عهد عمر بن الخطاب t. وأتى جيش خالد بن الوليد، فأرسل فرقة تتحسَّس الطريق في اليمامة، ووجدت في طريقها ستين رجلاً من بني حنيفة أرادوا أن يغيروا على بعض المسلمين حول بني حنيفة، فأتوا بهم إلى خالد، فتحدث معهم خالد، فأصرُّوا على ردتهم، فبدأ t يقتلهم كما أمره أبو بكر الصِّدِّيق، واحدًا تلو الآخر، وبقي رجلٌ ظل على ردَّتِه، وأراد خالد قتله، ولكن أشار عليه أحد المسلمين أن يحتفظ به أسيرًا؛ لأن له كلمة في قومه، وكان اسمه مجاعة بن مرارة، فقيّده، ووضعه في خيمته، ووَكّل في إطعامه وشرابه زوجته. ثم تقدمت الجيوش الإسلامية ناحية بني حنيفة، فجعل شرحبيل بن حسنة على المقدمة، وعلى ميمنته زيد بن الخطاب، وعلى الميسرة أبا حذيفة، ثم فَرّق بين المهاجرين والأنصار؛ حتى يعلم المسلمون من أين يُؤتون، وليحفِّز المسلمين على القتال، وجعل على راية الأنصار ثابت بن قيس، وعلى راية المهاجرين سالم مولى أبي حذيفة، ويبقى خالد بن الوليد في منتصف الجيوش حتى يدير هو كل المعركة، وجعل فسطاطه في مؤخرة هذا الجيش، وفي داخل الفسطاط (مجاعة) الأسير، وزوجة خالد تقوم برعايته، وجعل في مؤخرته سَلِيط بن قيس. أمَّا مسيلمة بن حبيب الكذّاب فكانت عنده مجموعة كبيرة من الحصون، أكبرها يسمونه الحديقة، وله أسوار عالية، وكانت قوة مسيلمة كبيرة جدًّا لا تستوعبها هذه الحديقة، فخرج بجيشه خارج حديقته، وبقي مسيلمة في مؤخرة جيشه، ووضع خيمته على باب حصنه، حتى إذا حدثت هزيمة يدخل هو الحصن. والتقى الجيشان، وفي بداية المعركة هجم جيش مسيلمة هجومًا شديدًا على جيش المسلمين، واخترقوه حتى وصلوا إلى فسطاط خالد بن الوليد، وحرَّروا (مجاعة)، وكادوا أن يقتلوا زوجة خالد بن الوليد، لولا أن أجارها مجاعة بن مرارة. وفَوْر وقوع هذا الانكسار جمع المسلمون أنفسهم، وظهرت نماذج في جيش المسلمين لا تكاد تتكرر في التاريخ؛ فقام زيد بن الخطاب t الذي نذر ألاّ يتكلم حتى ينصره الله على هؤلاء المرتدين، أو يُقتل في سبيل الله في هذه المعركة، وبدأ يجمع حوله مجموعة من الصحابة الأبرار، وقاتل قتالاً شديدًا في جهة اليمين، حتى وفّقه الله تعالى إلى أن يصل إلى نهار الرَّجّال قائد ميسرة المرتدين، فقتل زيد بن الخطاب نهار الرَّجال، فضعفت الهمة في قلوبهم، فانكسروا انكسارًا كبيرًا، وهجم عليهم المسلمون. واستمر زيد بن الخطاب في القتال، ودخل في عمق جيش المرتدين، فقدّر الله تعالى أن يحقق لزيد بن الخطاب t أمنيته، ويلقى الشهادة. وبقتل زيد بن الخطاب t حدث انكسار ثانٍ في جيش المسلمين، فهجم جيش مسيلمة في هذة المرة هجومًا شديدًا، واجتاحوا جيش المسلمين للمرة الثانية حتى وصلوا لخيمة خالد بن الوليد للمرة الثانية، فقام ثابت بن قيس t الذي يحمل راية الأنصار، ونادى على الأنصار، فيُلبِّي الأنصار, ويقاتلون قتالاً شديدًا، يقاتل ثابت بن قيس t، وهو يحمل الراية، فتقطع إحدى رجليه، ويقع على الأرض، ثم يسمع النداء: يا لَلأَنصارِ. فيُسرِع، وهو برِجْلٍ واحدة، ويحبو على الأرض، فيقول له أبو سعيد الخدري t: ما عليك. فيقول: أُلَبِّي ولو حبوًا. فيستشهد، ثم يستمر جيش مسيلمة في الهجوم على جيش المسلمين، فيظهر نموذج آخر، وهو أبو حذيفة t. كان أبو حذيفة من حُفّاظ سورة البقرة، فينادي: يا أهل البقرة. فيقوم له المسلمون الحافظون لسورة البقرة، ويقاتلون قتالاً شديدًا حتى يستشهد t. واشتدَّت شوكة المسلمين, وبدءوا يهجمون على المشركين هجومًا شديدًا، وفي هذا الهجوم الثاني للمسلمين يصل خالد بن الوليد t إلى مسيلمة الكذّاب، فيدعوه إلى الإسلام؛ إذ كان حريصًا على قوة الإسلام، يقول له: ارجع للإسلام، لو رجعت للإسلام ستحفظ دماء هؤلاء الناس من القتل. فيأبى مسيلمة أن يسلم، ويستمر على ردَّتِه. ثم يحدث انكسارٌ ثالثٌ في جيش المسلمين؛ لأن جيش المشركين كبير جدًّا، فيدخل جيش المشركين للمرة الثالثة، حتى يصلوا إلى خيمة خالد للمرة الثالثة، فقام عمار بن ياسر t، وكان من حفاظ القرآن، يقول: يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال. فينشط أهل القرآن، ويهجمون هجومًا شديدًا على المشركين، ويطلق خالد بن الوليد شعارًا للمعركة حتى يحفِّز المسلمين فيقول: وامحمَّداه. فازدادت الحميَّة في قلوب المسلمين، وعلموا أن هذا الرجل "مسيلمة الكذّاب" ليس منصورًا من الله I، وأن النصر معهم، وأنهم إذا ماتوا ماتوا على الإيمان، وهو ميِّت على الردة؛ فهجموا هجومًا شديدًا على المشركين حتى استطاعوا أن يقحموهم إلى اتجاه الحصن الكبير، فيسرع المرتدون إلى الحديقة، وأراد المسلمون دخول الحديقة، فلم يستطيعوا دخولها لمنعة أسوارها العالية. فخرج البراء بن مالك t بفكرة عجبية جدًّا لفتح باب الحصن العظيم، فقال للمسلين: ضعوني على درع، ثم ارفعوا هذا الدرع بأسِنَّة الرماح، ثم ارفعوني، حتى أصل إلى أعلى السور، ثم اقذفوني داخل الحديقة، أفتح لكم الباب بإذن الله. فألقوه داخل الحديقة، وتكالب عليه المرتدون، وظل يقاتل حتى وصل إلى باب الحصن، وفتح الباب، بعد أن أصابه ثمانون طعنة، وبمجرد فتح الباب، أُسقط في يد المرتدين، فهم لم يتخيلوا أن يسقط عليهم رجلٌ، ويثبت لقتالهم، ويفتح الباب، فأصاب ذلك في نفوسهم رهبة شديدة من المسلمين، وعلموا أن المسلمين منصورون، ومع ذلك قاتلوا على ردتهم. ودخل جيش المسلمين الحديقة، وبدءوا يقاتلون المرتدين، وثبت المرتدون على القتال حتى شاء الله تعالى أن يُقْتَلَ محكم بن الطفيل وزير مسيلمة الكذّاب، فعلت همة المسلمين، وضعفت نفوس المرتدين، وازداد القتل في المرتدين، حتى وصل إلى مسيلمة الكذّاب أحدُ المسلمين الذي أراد أن يكفِّر عن ذنبٍ قديم عظيم ارتكبه في جاهليته، فحمل رمحه، وسدَّده إلى قلب مدَّعِي النبوة الكافر، فخرَّ صريعًا، وهذا الرجل الصحابي هو وحشيّ بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب في غزوة أُحُدٍ!! وفي نفس اللحظة الذي يسقط فيها مسيلمة الكذاب برمح وحشي كانت تطير عنق مسيلمة الكذاب بسيف آخر في تزامنٍ عجيب من أبي دجانة، وبعد أن قطع أبو دجانة رأس مسيلمة الكذاب شاء الله له أن يلقى الشهادة، فقتله أحد المرتدين بسهمٍ وسقط t شهيدًا في معركة اليمامة. وبعد قتل مسيلمة الكذاب وهنت نفوس المرتدين، وخارت عزائمهم، فلم يقووا على فعل شيء، فأعلنوا تسليمهم، وبلغ عدد قتلى المرتدين في معركة اليمامة 21000 قتيل، واستشهد من جيش المسلمين 1200 شهيد، منهم 500 من حفظة القرآن. وبعد انتصار خالد بن الوليد تسلل مجاعة بن مرارة إلى الحصون المجاورة، وكان فيها الذراري والنساء، وأمرهن بلباس عُدَّة الحرب، والوقوف في الشرفات، ونزل هو إلى خالد وعرض عليه الصلح وإلاَّ نزل هؤلاء القوم ليقاتلوك، ونظر خالد إلى الشرفات، فرأى أناسًا مدجَّجين بالسلاح، فنظر خالد إلى جيش المسلمين، فوجده قد أنهك من الحرب، فرأى خالد أن يصالحه، ولا يدخل في قتالٍ غير مضمون، فصالحه خالد على الرجوع إلى الإسلام وثلث ثمار اليمامة. وبعد إتمام الصلح فتح مجاعة الحصون، وعرف خالد أنها خدعة، فليس في هذه الحصون غير النساء والأطفال، وفي هذا الوقت جاء خطاب من أبي بكر t بأن لا يقبل الصلح من بني حنيفة إذا عُرِض عليه، ولكن كان خالد قد أنهى الصلح، وأخذ خالد الثلث، وأسلم القوم وذهبوا إلى أبي بكر الصِّدِّيق t، وبايعوه، وعنّفهم أبو بكر تعنيفًا شديدًا. الجيش الخامس والسادس كان الجيش الخامس متجهًا إلى الشمال وعلى رأسه خالد بن سعيد t أحد قدامى الصحابة، وكان متجهًا لقبيلة قضاعة بالذات. أما الجيش السادس فكان متجهًا إلى مشارف الشام، وعلى رأسه عمرو بن العاص t، ولم يلاقِ هذان الجيشان قتالاً يُذكر، وما إن وصلوا إلى الشام حتى فرَّت منهم القبائل, فعادوا إلى أبي بكر الصِّدِّيق t. الجيش السابع واتَّجه إلى قبائل عبد القيس الموجودة في البحرين، وكان على رأسه العلاء بن الحضرمي t، وذهب بجيشه مسافة طويلة جدًّا، واجتاز بجيشه صحراء موحشة، لم يكن يمر بها أحد حتى وصل إلى قبائل عبد القيس فعسكر هناك، قبل معسكر المرتدين في مكان يسمَّى هَجَر، وكانت كل القبائل في تلك المناطق قد ارتدَّتْ عن الإسلام وعلى رأسها قبيلة عبد القيس، وما ثبت على الإسلام إلا قرية صغيرة تسمى جُوَاثى التي حاصرها المرتدون. العلاء بن الحضرمي t أرسل رسائل إلى القبائل المرتدة، وكانت أول رسالة إلى قبيلة تميم التي عادت إلى الإسلام، وخرج منها ألف مقاتل على رأسهم قيس بن عاصم، وأتاه ثمامة بن أثال في ألفٍ من بني حنيفة، واستطاع الجارود بن يعلى أن يتسلل من قريته جواثى بجيش بعد رسالة وصلته من العلاء بن الحضرمي ليعسكر معه بهجر، ويكسر الحصار المفروض عليه من القبائل المرتدة. وبدأت المعارك تدور بين جيش المسلمين بقيادة العلاء بن الحضرمي، وبين المرتدين بقيادة النعمان بن المنذر، واستمرت المعارك شهرًا كاملاً, وخندق كل جيش حوله خندقًا، وفي ذات يوم سمع العلاء بن الحضرمي ضجة في معسكر المرتدين، وكانوا سكارى، فجهّز الجيش في الليل، وباغتهم، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، لم يبقَ أمام العلاء بن الحضرمي سوى من هرب إلى جزيرة دارين، وكان بينه وبينهم البحر، ولم يكن مع العلاء بن الحضرمي في ذلك الوقت سفن، فركب الجيش البحر ووصلوا إلى دارين دون أن يفقد المسلمون مقاتلاً واحدًا، ورأى الفارُّون المرتدون جموعَ المسلمين تخرج من البحر، فسقط في أيديهم, وأعمل المسلمون فيهم السيفَ, وقتلوا منهم مقتلة عظيمة في دارين، ثم عاد المسلمون منصورين في سفن المرتدين. الجيش الثامن والتاسع كانت عُمان في عهد الرسول r، على رأسها أخوان جَيْفَر وعبَّاد، فأرسل النبي r عمرو بن العاص إليها، فدعاهما إلى الإسلام فأسلما فأمَّرهما على عمان. وبعد وفاة النبي r ظهر فيهم رجل يدعى لقيط بن مالك، وكان يلقب بذي التاج، وادّعى هذا الرجل النبوة، واتبعه خلق كثير، وجهز جيشًا ليقاتل به جيفر وعباد، وكانا قد ثبتا على إسلامهما، واستطاعا أن يجمعا المسلمين، ويهربا من أمام جيش لقيط إلى ساحل البحر، واستولى لقيط على منطقة عُمان كلها. ولما علم أبو بكر t بأمر لقيط بن مالك جهّز له جيشين: أوَّلهما هو الجيش الثامن، وكان بقيادة حذيفة بن محصن t، والجيش الآخر كان هو الجيش التاسع، وكان بقيادة عرفجة بن هرثمة. وقد أمر أبو بكر t الجيشين بأن يتَّحدا بقيادة حذيفة بن محصن، ولحق بهما عكرمة بن أبي جهل بعد أن هُزِم أمام مسيلمة، وأرسل حذيفة رسالة إلى جيفر وعبَّاد فرجعا بمن معهما من المسلمين إلى جيش حذيفة بن محصن، وعسكروا مع المسلمين، وجهّز لقيط جيشه، وتقابل مع المسلمين في موقعة شرسة جدًّا وكانت القوة متكافئة، وظل الفريقان في صراع إلى أن مَنَّ الله على المسلمين بمددٍ من جيش العلاء بن الحضرمي، فرجحت كفة المسلمين، وكتب الله النصر للمسلمين، وقُتل لقيط بن مالك، وقتل معه 10000 مرتد في عمان، ودخل جيفر وأخوه عبَّاد بجيشهما إلى عمان ليمتلكوا زمام الأمور. أما جيوش المسلمين الثلاثة فانطلقت إلى مكان يسمى مَهَرَة لقتال المرتدين هناك، ولما وصل الجيش إلى مهرة بعث أبو بكر t برسالة يُؤَمِّرُ فيها عكرمة بن أبي جهل على الجيوش الثلاثة؛ ليحفظ له مكانته، ويقول له: لا تعُدْ إلى المدينة حتى أرى منك موقفًا. وتوجه عكرمة إلى مهرة بعد أن تولى قيادة الجيوش الثلاثة لقتال المرتدين، وكان بهذه المنطقة كثير من القبائل المرتدة، وكان على رأس هذه القبائل اثنان يُدعى أحدهما شخريط والآخر مصبح، وبعد ارتدادهما اختلفا وتقاتلا, فكلٌّ منهما يريد إمارة المرتدين، ووصل عكرمة، وعلم بأمرهما فراسل شخريطًا، وهدَّده بقوة المسلمين, ورغَّبه في الإسلام، فأسلم شخريط لمَّا تيقن من قوة المسلمين، وأنهم سيحاربون معه ضد مصبح، وتسلَّل بجيشه وانضمَّ إلى جيش عكرمة بن أبي جهل، وقاتل المسلمون في هذه المعركة قتالاً شديدًا وصبروا حتى كتب الله لهم النصر. الجيشان العاشر والحادي عشر بعد انتصار المسلمين في "مهرة" جمع عكرمة الجيش ليذهب به إلى اليمن، وكان المتجه إلى اليمن جيشان من المدينة؛ الجيش العاشر بقيادة المهاجر بن أمية، والجيش الحادي عشر بقيادة سويد بن مُقَرِّن، وكان سويد بن مقرن متجها إلى تهامة، أما المهاجر بن أمية فوجَّهه أبو بكر إلى صنعاء، وكان بها أغلب المرتدين. وكان قد ظهر في اليمن رجل في عهد الرسول r يَدَّعِي النبوة وهو الأسود العنسيّ واسمه عبهلة بن كعب، وتبع الأسودَ العنسيَّ الكثيرُ من المرتدين، وكان النبي r أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن بعد أن أسلم أهلها ليعلِّمهم ويفقِّههم، وكان أمير اليمن رجلاً يُدعى شهر بن باذان، وظهر الأسود العنسي في إمارة شهر بن باذان وكان معاذ بن جبل t يعلِّم الناس في ذلك الوقت، وقام الأسود العنسي بجيشه على "شهر"، وقتله، وتزوج امرأته، وكانت امرأة صالحة إلا أنه تزوجها قهرًا، واضطهد الأسود العنسي المسلمين فكان يقتل كل من يعرف أنه مسلم، وهرب معاذ بن جبل إلى حضرموت، وانقسم من ثَبُتَ من المسلمين إلى قسمين: البعض هرب مع معاذ إلى حضرموت، وكان واليها من قِبل الرسول r اسمه طاهر بن أبي هالة، وكان من صحابة الرسول r. ومن بقي في اليمن عامل الأسود العنسي بالتقيَّة، واشتدَّ أمر الأسود العنسي، وكان له جيش كبير، وكان له ثلاثة قادة هم: قيس بن مكشوح، والثاني داذويه، والثالث فيروز الديلمي. ولما علم النبي r بأمر الأسود العنسي وادِّعائه للنبوة، بعث r برسالة إلى معاذ بن جبل؛ ليجمع حوله المسلمين، ويقاتلوا الأسود العنسي حتى يقتله، وبدأ معاذ بن جبل t في تجميع المسلمين، سواءٌ من أخفوا إسلامهم أو من كانوا معه في حضرموت. وفي ذلك الوقت فكَّر القوّاد الثلاثة المرتدُّون أن ينقلبوا على الأسود العنسي ليأخذوا منه قيادة اليمن، فبعث معاذ برسالة إلى قيس بن مكشوح سرًّا وأرسل قيس إلى داذويه، وفيروز الديلمي، واتفقوا على الدخول في الإسلام ليساعدهم جيش المسلمين في تحقيق هدفهم، وهو القضاء على الأسود وجيشه. وكانت امرأة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود العنسيّ قهرًا امرأة صالحة وذات دين، وكانت ابنة عم فيروز الديلمي، فراسلها فيروز الديلمي سرًّا لتعاونهم على قتل الأسود العنسي، فوافقت على ذلك وحددت لهم ليلة، وحددت لهم بابًا لا يقف عليه أحد من الحراس، وتسلَّل القواد الثلاثة إلى قصر الأسود العنسي في الليلة المتفق عليها، وفتحت امرأة الأسود الباب بعد أن سقته الخمر، فدخل عليه فيروز الديلمي، فوجده قد سَكِرَ سُكرًا شديدًا، فخنقه بيده حتى ظن أنه قد مات، ولما دخل عليه القواد الثلاثة وجدوه حيًّا، فتقدم إليه قيس بن مكشوح، فذبحه، وخبَّأ رأسه، ثم خرج على أهل صنعاء في اليوم التالي بعد أن جمعهم ليعلن إسلامه، وإيمانه بمحمد r، وأن الأسود العنسيّ كذاب ورمى لهم برأسه، فهرب المرتدون، وانقضَّ عليهم المسلمون يقتلونهم. وجاء الطاهر بن أبي هالة بجيشه، وفيه معاذ بن جبل، ودخل اليمن، وعاد الناس إلى الإسلام مرة أخرى، وأرسل المسلمون رسالة إلى النبي r بقتل الأسود العنسي، ووصل البريد إلى المدينة صبيحة وفاة النبي r، فرجع البريد إلى اليمن ليخبرهم بوفاة النبي r، فلما وصلهم خبر وفاة النبي r ارتدُّوا، وكان على رأس المرتدين قيس بن مكشوح، وبمكيدة منه قتل داذويه الأمير الثاني، وهرب فيروز الديلمي، وهرب معاذ بن جبل t أيضًا إلى حضرموت عند الطاهر بن أبي هالة، وسيطر قيس بن مكشوح ومعه جيش المرتدين على المنطقة مرة أخرى، وعلم بذلك أبو بكر الصِّدِّيق t، فوجَّه إلى اليمن الجيش العاشر، وكان على رأسه المهاجر بن أميَّة. ولما علم المسلمون في حضرموت خبر هذا الجيش راسلوه وتواعدوا على موعد دخول اليمن، ودخل فيروز الديلمي معهم من داخل صنعاء بجيشه، واجتمعت الجيوش الثلاثة، وقاتلوا قيس بن مكشوح قتالاً شديدًا، وكتب الله النصر للمسلمين فاستسلم قيس بن مكشوح، واستسلم معه عمرو بن معديكرب، وكان من الصحابة إلا أنه ارتدَّ في اليمن، وأرسلهما معاذ بن جبل إلى أبي بكر الصِّدِّيق مع أحد الرسل، وفي الطريق أسلما قبل أن يصلا إلى المدينة، وقَبِل منهما أبو بكر بعد أن عنّفهما بشدة. أما الجيش الحادي عشر فلم يلقَ قتالاً في منطقة تهامة بعد أن سيطر المسلمون على اليمن, فقد رجع الناس إلى دين الله. وبذلك انتهت حروب الردة، وبفضل الله كتب الله U النصر للمسلمين في كل المواقع، ولم يبقَ في الجزيرة العربية مرتدٌّ واحد. | |
|