| الاعجاز اللغوي والبياني | |
|
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:08 am | |
| من بديع الإيجاز والإطناب في القرآن الكريم
-------------------------------------------
أولاً- يعرف علماء البلاغة الإيجاز بأنه التعبير عن المراد بلفظ غير زائد، ويقابله الإطناب؛ وهو التعبير عن المراد بلفظ أزيد من الأول. ويكاد يجمع الجمهور على أن الإيجاز، والاختصار بمعنى واحد؛ ولكنهم يفرقون بين الإطناب، والإسهاب بأن الأول تطويل لفائدة، وأن الثاني تطويل لفائدة، أو غير فائدة.
ويعدُّ الإيجاز والإطناب من أعظم أنواع البلاغة عند علمائها، حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال: اللغة هي الإيجاز والإطناب. وقال الزمخشري صاحب الكشاف: كما أنه يجب على البليغ في مظانِّ الإجمال أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع .
ثانيًا- ومن بديع الإيجاز قوله تعالى في وصف خمر الجنة:﴿ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ ﴾(الواقعة: 19)، فقد جمع عيوب خمر الدنيا من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب.
وحقيقة قوله تعالى:﴿ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا ﴾. أي: لا يصدر صداعهم عنها. والمراد: لا يلحق رؤوسهم الصداع، الذي يلحق من خمر الدنيا. وقيل: لا يفرقون عنها، بمعنى: لا تقطَع عنهم لذتهُم بسبب من الأسباب، كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع من التفريق.
وقرأ مجاهد:﴿ لَا يَصَدَّعُونَ ﴾، بفتح الياء وتشديد الصاد، على أن أصله: يتصدعون، فأدغم التاء في الصاد. أي: لا يتفرقون؛ كقوله تعالى:﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾(الروم: 43). وقُرِىءَ:﴿ لَا يَصَدَعُونَ ﴾، بفتح الياء والتخفيف. أي: لا يصدع بعضهم بعضًا، ولا يفرقونهم. أي: لا يجلس داخل منهم بين اثنين، فيفرق بين المتقاربين؛ فإنه سوء أدب، وليس من حسن العشرة.
وقوله تعالى:﴿ وَلَا يُنْزِفُونَ ﴾، قال مجاهد، وقتادة، والضحاك: لا تذهب عقولهم بسكرها، من نزف الشارب، إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. قيل: وهو من نزف الماء: نزحه من البئر شيئًا فشيئًا.
ثالثًا- ومن بديع الإطناب قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام:﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى ﴾(يوسف: 53).
ففي قوله:﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ﴾ تحيير للمخاطب وتردد، في أنه كيف لا يبرىء نفسه من السوء، وهي بريئة، قد ثبت عصمتها ! ثم جاء الجواب عن ذلك بقوله:﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى ﴾.
والمراد بالنَّفْسَ النفس البشرية عامة. وأمَّارَةٌ صيغة مبالغة على وزن: فعَّالة. أي: كثيرة الأمر بِالسُّوءِ. أي: بجنسه. والمراد: أنها كثيرة الميل إلى الشهوات. والمعنى: إن كل نفس أمارة بالسوء، إلا نفسًا رحمها الله تعالى بالعصمة.
وهذا التفسير محمول على أن القائل يوسف عليه السلام. والظاهر أنه من قول امرأة العزيز، وأنه اعتذار منها عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات. والمعنى: وما أبريء نفسي، مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قذفته، وقلت:﴿ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾(يوسف: 25)، وأودعته السجن. تريد بذلك الاعتذار مما كان منها. ثم استغفرت ربها، واسترحمته مما ارتكبت.
رابعًا- ومن الآيات البديعة، التي جمعت بين الإيجاز والإطناب، في أسلوب رفيع من النظم بديع، قول الله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾(النمل: 18)
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:09 am | |
| أما الإطناب فنلحظه في قول هذه النملة:﴿ يَا أَيُّهَا ﴾، وقولها:﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾. أما قولها:﴿ يَا أَيُّهَا ﴾ فقال سيبويه:” الألف والهاء لحقت { أيًّا } توكيدًا؛ فكأنك كررت { يا } مرتين، وصار الاسم تنبيهًا “.
وقال الزمخشري:” كرر النداء في القرآن بـ﴿ يَا أَيُّهَا ﴾، دون غيره؛ لأن فيه أوجهًا من التأكيد، وأسبابًا من المبالغة؛ منها: ما في { يا } من التأكيد، والتنبيه، وما في { ها } من التنبيه، وما في التدرُّج من الإبهام في { أيّ } إلى التوضيح. والمقام يناسبه المبالغة، والتأكيد “.
وأما قولها:﴿ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فهو تكميل لما قبله، جيء به، لرفع توهُّم غيره، ويسمَّى ذلك عند علماء البلاغة والبيان: احتراسًا؛ وذلك من نسبة الظلم إلى سليمان- عليه السلام- وكأن هذه النملة عرفت أن الأنبياء معصومون، فلا يقع منهم خطأ إلا على سبيل السهو. قال الرازي:” وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء، عليهم السلام “.
ومثل ذلك قوله تعالى:﴿ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾(الفتح:25). أي: تصيبكم جناية كجناية العَرِّ؛ وهو الجرب.
وأما الإيجاز فنلحظه فيما جمعت هذه النملة في قولها من أجناس الكلام؛ فقد جمعت أحد عشر جنسًا: النداء، والكناية، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والقصص، والتحذير، والتخصيص، والتعميم، والإشارة، والعذر.
فالنداء:{ يا }. والكناية:{ أيُّ }. والتنبيه:{ ها }. والتسمية:{ النمل }. والأمر:{ ادخلوا }. والقصص:{ مساكنكم }. والتحذير:{ لا يحطمنكم }. والتخصيص:{ سليمان }. والتعميم:{ جنوده }. والإشارة:{ هم }. والعذر:{ لا يشعرون }.
فأدَّت هذه النملة بذلك خمسة حقوق: حق الله تعالى، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق الجنود.
فأما حق الله تعالى فإنها استُرعيت على النمل، فقامت بحقهم. وأما حق سليمان- عليه السلام- فقد نبَّهته على النمل. وأما حقها فهو إسقاطها حق الله تعالى عن الجنود في نصحهم. وأما حق الرعية فهو نصحها لهم؛ ليدخلوا مساكنهم. وأما حق الجنود فهو إعلامها إياهم. وجميع الخلق، أن من استرعاه الله تعالى رعيَّة، وجب عليه حفظها، والذبِّ عنها، وهو داخل في الخبر المشهور:” كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته “. هذا من جهة المعنى.
وأما من جهة المبنى ( اللفظ ) فإن كلمة { نملة } من الكلمات، التي يجوز فيها أن تكون مؤنثة، وأن تكون مذكرة؛ وإنما أنث لفظها للفرق بين الواحد، والجمع من هذا الجنس. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:” لا تضحِّي بعوراءَ، ولا عجفاءَ، ولا عمياءَ “ كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة، ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة !
وأما تنكير { نملة } ففيه دلالة على البعضيَّة، والعموم. أي: قالت نملة من هذا النمل. وهذا يعني أن كل نملة مسؤولة عن جماعة النمل.
وأما قولها:﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾ ففيه إيجاز بالحذف بليغ؛ لأن أصله: ادخلوا في مساكنكم، فحذف منه { في }، تنبيهًا على السرعة في الدخول.
ولفعل { دخل } استعمالات دقيقة في اللغة والقرآن، تخفى حتى على الكثير من علماء اللغة والتفسير، لخصها الأستاذ محمد إسماعيل عتوك في مقالته النقدية ( من أسرار تعدية الفعل في القرآن الكريم ).
وأما قولها:﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾، بنون مشددة أو خفيفة، فظاهره النفيُ؛ ولكن معناه على النهي. والنهيُ إذا جاء على صورة النفي، كان أبلغ من النهي الصريح. وفيه تنبيه على أن من يسير في الطريق، لا يلزمه التحرُّز؛ وإنما يلزم من كان في الطريق.
خامسًا- وفي التعبير بـ﴿ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾، دون غيره من الألفاظ، دلالة دقيقة على المعنى المراد، لا يمكن لأيِّ لفظ أن يعبِّر عنه. ويبيِّن ذلك أن الحَطْمَ في اللغة هو الهَشْمُ، مع اختصاصه بما هو يابس، أو صلب. والحطمة من أسماء النار؛ لأنها تحطم ما يلقى فيها. وعن بعض العرب: قد تحطمت الأرض يبسًا، فأنشبوا فيها المخالب، وهي المناجل. أي: تكسرت زروع الأرض، وتفتتت لفرط يبسها، فجزوها. ومن هنا نجد القرآن الكريم يستعمل لفظ الحطم للزرع اليابس المتكسر. قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ ﴾(الزمر: 21)
وقد ثبت للعلماء أن الزرع يحتوي في ساقه وورقه على نسب كبيرة من الزجاج؛ ولهذا نراه يتكسر حين يصفر، كما يتكسر الزجاج. وكذلك النمل، فقد ثبت أن جسم النملة يحتوي على نسبة كبيرة من الزجاج، وأنه مغلف بغلاف صلب جداً قابل للتحطم؛ كالزرع اليابس، والزجاج الصلب. وذلك يشكل إعجازًا علميًّا من إعجاز القرآن إلى جانب إعجازه البياني، الذي يسمو فوق كل بيان!
وبعد.. فقد أدركت هذه النملة الضعيفة فخامة ملك سليمان، وأحسَّت بصوت جنوده قبل وصولهم إلى وادي النمل، فنادت قومها، وأمرتهم بالدخول في مساكنهم أمر من يعقل، وصدر من النمل الامتثال لأمرها، فأتت بأحسن ما يمكن أن يؤتى به في قولها من الحكم، وأغربه، وأفصحه، وأجمعه للمعاني؛ ولهذا تبسم سليمان عليه السلام حين سمع قولها، وروي عنه- عليه السلام- أنه قال لها: لم قلت للنمل:﴿ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ﴾؟ أخفت عليهم من ظلمنا ؟! فقالت: لا، ولكن خفت أن يفتتنوا بما يرَوْا من ملكك، فيشغلهم ذلك عن طاعة الله !
وفي حديث سليمان- عليه السلام- مع النملة، وحديثها مع قومها إعجاز آخر من إعجاز القرآن. فقد أثبت العلماء أن للنمل لغته الخاصة، التي يتفاهم بها، كما أثبت أن النملة المؤنثة هي التي ترعى قومها، وتتولى الدفاع عنهم، وتنبههم لأي خطر قادم، أو مفاجىء، وليس للذكر أي دور في ذلك؛ لأن مهمته مقتصرة على تلقيح الأنثى العذراء مرة واحدة في حياته، ثم يختفي.
وأسرار النمل وعجائبه كثيرة، ليس هذا المقال موضع بسطها، ويكفي أن أشير إلى أن النمل- على ضعفه- مخلوق قويُّ الحسِّ، شمَّامٌ جدًّا، نشيط جدًّا، يتميز بذكاء خارق، وقبل تخزين الحب يقوم يشق الحبة من القمح قطعتين؛ لئلا تنبت، ويشق الحبة من الكزبرة أربع قطع؛ لأنها إذا قطعت قطعتين أنبتت، والحب الذي لا يستطيع شقه، يقوم بنشره تحت أشعة الشمس بصفة دورية ومنظمة، حتى لا يصيبه البلل، أو الرطوبة فينبت، ويأكل في عامه بعض ما يجمع، ويدَّخر الباقي عدة أعوام، وحياته مثل حياة النحل دقيقة التنظيم، تتنوع فيها الوظائف، وتؤدى جميعها بإتقان رائع، يعجز البشر غالبًا عن إتباع مثله، على الرغم مما أوتوا من عقل راق، وإدراك عال.
بقي أن تعلم أن النمل يضرب المثل به في الضعف والقوة والكثرة، فمن أمثال العرب قولهم:” أضعف وأكثر وأقوى من النمل “. وحكي أن رجلاً قال لبعض الملوك: جعل الله قوَّتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه ذلك، فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله تعالى بالنمل أمة من الأمم، وهي جرهم. ومن أمثالهم أيضًا قولهم:” أحرص من نملة، وأروى من نملة “ لأنها تكون في الفلوات، فلا تشرب ماء.
فتأمل حكمة الله تعالى في أضعف خلقه، وردِّدْ مع سليمان- عليه السلام- قوله:﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾.. والحمد لله رب العالمين | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:11 am | |
| تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
قال الله جل وعلا:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(الحاقة: 38- 43)
أولاً- في هذه الآيات الكريمة يقرر الله جل وعلا تقريرًا حاسمًا جازمًا حقيقة هذا القول، الذي جاء به الرسول الكريم، هذا القول، الذي تلقَّاه الكفرة والمشركون بالرَّيب، والسخرية، والتكذيب. ويؤكِّد سبحانه وتعالى على أنه حق ثابت؛ لأنه صادر عن الحق، وينفي على سبيل القطع والجزم أن يكون شعر شاعر، أو كهانة كاهن، أو افتراء مفتر؛ ولهذا فهو أوضح من أن يحتاج إلى قسم لتوكيده بشيء مما نبصر، وبأشياء مما لا نبصر من مشاهد هذا الكون العجيب.
وقد كان مما تقوَّل به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم: إنه شاعر، وإنه كاهن، متأثرين في هذا بشبهة سطحية، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على كلام البشر، وأن الشاعر في وهمهم له من الجن من يأتيه بالقول الفائق، وأن الكاهن كذلك متصل بالجن، فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع.. وهي شبهة تسقط عند أقل تدبر لطبيعة القرآن والرسالة، وطبيعة الشعر والكهانة، وهي شبهة واهية سطحية، حتى حين كان القرآن الكريم لم يكتمل، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات، عليها ذلك الطابع الإلهي الخاص، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد ، وهو الله جل في علاه !
وكبراء قريش وصناديدها كانوا يراجعون أنفسهم، ويردُّون على هذه الشبهة بين الحين والحين؛ ولكن الغرض يعمي البصائر عن رؤية الحق، ويصمُّ الآذان عن سماعه..
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾(الأحقاف: 11)
وقد حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش، وهم يراجعون هذه الشبهة، وينفونها فيما بينهم، ومن ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة، وعن النضر بن الحارث، وعن عتبة بن ربيعة..
فما كان قولهم: ساحر، أو كاهن، أو غير ذلك إلا حيلة ماكرة أحيانًا، وشبهة مفضوحة أحيانًا.. والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول تدبُّر، وأول تفكُّر، وهو من ثمَّ لا يحتاج إلى قسم بما يبصرون، وما لا يبصرون:
﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾
﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ إنما هو:
﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
وكانت مواقفهم تلك من القرآن الكريم من أهم الأسباب الداعية إلى التحدي. ولقد عجبت من أحد المساكين، الذي عرَّف بنفسه أنه باحث عقلاني في القرآن الكريم، حين سمعته يكفِّر كل من يقول بالتحدي في القرآن، ويسفِّه رأيه؛ لأن الله سبحانه- على حدِّ زعمه- لا يليق به أن يتحدَّى البشر؛ بل يليق به أن يستهزئ بهم.
وسأنقل هنا شيئًا مما قاله هذا الباحث العقلاني في هذا الصدد، وأترك للقارئ الكريم التعليق عليه. ومن يدري فلعله يكون محقًّا فيما قاله! ومن ذلك قوله:
” الله نسب الاستهزاء بالكفرة إلى نفسه، فذلك يجوز في حقه، ولم ينسب التحدي؛ لأنه لا يجوز. ومن ظن أن الآيات فيها شبهة تحدًّ، فهو واهم، والله لا يستحي أن يقول للكفرة: إني أتحداكم نصًّا صريحًا في القرآن، أو على لسان رسوله الكريم؛ ولكن ليس هناك من أثر واحد فيه دعوة الله تعالى بالتحدي؛ وإنما هي نصوص أولها الناس على التحدي، وهذا ما لا يجوز بحقه سبحانه وتعالى “.
وأضاف هذا المسكين قائلاً:
” هل خرج سيدنا محمد على كفار قريش، وقال لهم إني جئتكم بقرآن من ربكم، أتحداكم أن تؤتوا بمثله ؟ أين الجهابذة عندكم ، فليعارضوا القرآن، وهو معجزة؛ لأنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله ؟ هل جاء بالأثر مثل هذا ؟؟؟ لا، والله ، ما جاء؛ ولكنه وهم، وتحريف للكلم عن مواضعه.. شهادة بالغة لله في عنقي، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل “.
﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾، ونوِّر بصائرنا، ﴿ فََإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:14 am | |
| ثانيًا- ذكرت في مقالي السابق ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ أن الله تعالى بعد أن قرَّر في مكة المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم ، تحدَّى الخلق عامة، والمكذبين خاصة أن يأتوا:
﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37)
و﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13)
و﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34)
ثم أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة، فأمر الناس جميعهم عامة، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة واحدة من هذا المِثل للقرآن، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا، فليتقوا النار، التي وقودها الناس والحجارة، أعدت للكافرين، من أمثالهم.
وذكرت في مقالي الآخر ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ أن قول الله عز وجل:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
كان بمثابة الإعلان في مكة على لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة، والأمم عامة، إنسهم وجنهم، عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا، ولو تظاهروا على ذلك. وهذا ما دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ﴿ لَا ﴾ نفيًا شاملاً على سبيل القطع والجزم في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
فأفاد النفيُ بها أن الإتيان بمثل هذا القرآن، لا يمكن أبدًا، وأنه فوق طاقة الخلق من الإنس والجن مجتمعين.
ثم ذكرت أن هذا المثل للقرآن ليس مثلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مثل موجود، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن يشك في وجوده، ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مثل موجود:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ ﴾
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه الآية الكريمة ما يشير لا من قريب، ولا من بعيد إلى أن الله تعالى طلب من المكذبين خاصة، والناس عامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، خلافًا للمشهور؛ إذ كيف يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بهذا المثل للقرآن، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المثل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن يأتوا:﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾، حين كانوا في ريب منه، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(البقرة: 23)
ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة، أنهم لم يفعلوا، ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى إلى إرشادهم، فقال:
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾(البقرة: 24)
وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:21-22)
والخطاب هنا عام للناس كل الناس، في كل زمان وكل مكان، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه، وإن كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله.
وما في اللفظ يدل على خلاف ذلك..
ففي اللفظ قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾، وهو خطاب يراد به العموم، والعرب بعض من هذا العموم.
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾، والريب هو الشك بتهمة، وهو معلق بإن الشرطية، التي تدل على إمكان حدوث ما بعدها، وعدم إمكان حدوثه. وحدوثه، إن كان مع قلته، أخطر تهمة توجه إلى القرآن الكريم، فهو أخطر من الافتراء، ومن التقوُّل، ومن غيرهما.
ولهذا نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول لكل جنس من أجناس الريب في القرآن، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا؛ لأنه المعجزة الكبرى، التي أيَّد الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الآيات قوله تعالى:
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة: 2)
﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(السجدة: 2)
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾(فصلت: 42)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾، والإتيان بالشيء يكون بالمجيء به، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان قريب بسهولة ويسر، دون جهد يبذل. ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير كما في قوله تعالى هنا:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾
أو يكون ذلك بالاختراع من الجالب كما في قوله تعالى:
﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾(البقرة: 258)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ مِنْ ﴾، وهي لابتداء الغاية، مثلها في قوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ ﴾(القصص: 49)
وفي اللفظ قوله تعالى:﴿ مِثْلِهِ ﴾، ومِثْلُ الشيء، بكسر فسكون، هو المساوي للمثل الآخر المتفق معه في الجنس في تمام ذاته، أو حقيقته وماهيته، أو جوهره، لا في صفاته؛ فإن المثل لا يكون مثلاً لغيره، إلا وذلك الغير مثلاً له. والمثلان- بإجماع علماء التوحيد- هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، بحيث يسد مسدَّه. والشيء- كما قال أبو هلال العسكري- لا يكون مثل الشيء في الحقيقة، إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته، وأن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها ببعض، وبالمثل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض. وقد بينت ذلك ووضحته في مقالي المذكور:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾
فليس من الصواب في شيء بعد هذا كله أن يقال: إن الله تحدى العرب بأن يقولوا مثل هذا القرآن، أو سورة واحدة مثل سور هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وحسن نظمه، وما أشبه ذلك؛ لأنها صفات خارجة عن ذات الشيء وجوهره، أو حقيقته وماهيَّته، لا يعبَّر عنها بلفظ المِثْل. ومن قال خلاف ذلك، فإنه لا يعرف جوهر الكلام، ولا يدرك شيئًا من أسرار البيان. وما أظن أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا يفهمون معنى المثلية في هاتين الآيتين كما فهمها جمهور المفسرين، وأعني: المثلية في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23) | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:16 am | |
| ثالثًا- وحدث- بين الإعلان عن عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾، وبين تحدِّي الناس كلهم أن يأتوا بسورة من هذا المثل للقرآن ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾- أن اعترض الكفار في مكة على صحة دعوى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن ما جاء به من القرآن ليس بكلام الله، وأنه إنما أتى به من عند نفسه على سبيل الافتراء تارة، وعلى سبيل التقوُّل تارة أخرى، فبيَّن الله تعالى في هذين المقامين أن إتيان محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى، وليس على سبيل التقوُّل على الله جل وعلا؛ ولكنه وحي نازل عليه من عند الله تعالى، فقال سبحانه في الرد على القائلين بالافتراء:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(يونس: 37)
فنفى سبحانه أن يكون هذا القرآن مفترى من دون الله. أي: ما ينبغي لبشر أن يفتري هذا القرآن، وينسبه إلى الله جل وعلا. فنفى تعالى فعل ذلك، ونفى احتمال فعله، وأخبر بأن مثل هذا لا يقع؛ بل يمتنع وقوعه، فيكون المعنى: ما يمكن، ولا يحتمل، ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق، والمخلوق لا يقدر على ذلك.
ثم قال سبحانه في الرد على القائلين بالتقوُّل:
﴿ أََمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُون ﴾(الطور: 30- 33)
وهو حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن وحيًا من الله سبحانه، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله سبحانه. فالاستفهام إنكار لقولهم، واستبعاد له. وهم قد أكثروا من الطعن، وتمالؤوا عليه؛ ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة الحاضر:﴿ يَقُولُونَ ﴾، المفيدة للتجدد، ثم أتبع بقوله تعالى:﴿ تَقَوَّلَهُ ﴾، بدلاً من قوله، فيما تقدم:﴿ افْتَرَاهُ ﴾؛ وذلك لاختلاف المقامين.
والتقوُّل معناه: قال عن الغير: إنه قاله. فهو عبارة عن كذب مخصوص؛ كقوله تعالى:
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴾(الحاقة: 38)
أي: قال عنا ما لم نقله. وليس كذلك الافتراء؛ إذ كل تقوُّل افتراء، وليس كل افتراء بتقوُّل.
ولهذا شدَّد الله جل وعلا في وعيد من يتقوَّل عليه ما لم يقله، فقال في جواب الآية السابقة:
﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾(الحاقة: 39- 40)
ثم قال تعالى:﴿ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ جوابًا لقوله:﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾، فابتدأ الرد عليهم؛ لتعجيل تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم؛ وليكون ورود الاستدلال مفرَّعًا على قوله:﴿ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾، بمنزلة دليل ثان.
والمعنى: لا يؤمنون بسبب كفرهم وعنادهم، مع أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن الكريم بيِّنةٌ لديهم؛ ولكنهم أبوا أن يؤمنوا، وبادروا إلى الطعن في القرآن الكريم دون نظر، وشرعوا يلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم، وجهلهم، وغرورهم؛ من نحو ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ممَّا حُكِيَ عنهم؛ كقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال: 31) ، وقوله تعالى:
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾(يونس: 15) ، وقوله تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾(الزخرف: 30- 31 )
فأخبر تعالى عنهم: أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل القرآن، ووصفوه بأكاذيب الأولين، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم؛ كالأضاحيك والأعاجيب. وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن مرة، أو تبديله. وأنهم قالوا مرة، لما جاءهم: هذا سحر، وكفروا به، ثم قالوا: لولا نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم؛ كالوليد بن المغيرة بمكة، أو عروة بن مسعود الثقفي بالطائف.. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم، متعجبين من عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور، من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدي إليه، ووجد الحثُّ عليه.
يتبع
| |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:19 am | |
| رابعًا- وقد احتج الله تعالى على صحة هذا القرآن، وأنه ليس بمفترى، بأن أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجيب الكافرين عن دعوى الافتراء بتعجيزهم، وأن يقطع الاستدلال عليهم، ويبطل بذلك دعواهم بافترائه، فقال سبحانه:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
ثم قال سبحانه:
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13)
فتحداهم أن يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾. ثم تحداهم أن يأتوا﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾
وطلب منهم في الموضعين أن يستعينوا بمن أمكنهم الاستعانة به من المخلوقين من دون الله، إن كانوا صادقين، فقال سبحانه:
﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
ومن المحال أن يأتيَ واحد منهم بكلام، يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه، ثم يطالبهم أن يأتوا بسورة مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، ثم يعجزون جميعهم عن ذلك.
ومن الواضح أن الآيتين السابقتين قد وردتا على نمط واحد من الأسلوب. والفرق الوحيد بينهما هو أن التحدي في الأولى أتى﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾، وفي الآية الثانية أتى﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾. وما عدا ذلك فكل ما فيهما مماثل للآخر.
وأول ما يلفت النظر- هنا- هو تصدُّر الآيتين الكريمتين بـ﴿ أَمْ ﴾، وهي للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجبي. والغرض منه إبطال دعواهم أن يكون هذا القرآن مفترًى من دون الله جل وعلا.
و﴿ أَمْ ﴾ هذه هي التي تتقدر عند النحاة بـ( همزة الإنكار ) و( بل ). وعليه يكون تقدير الكلام: بل، أيقولون افتراه بعدما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء ؟ وقيل: إنكار لقولهم واستبعاد.
والافتراء معناه: الكذب. وأكثر استعماله في اللغة في الإفساد؛ وكذلك استعمل في القرآن في الشرك، والظلم، والكذب عن عمد؛ نحو قوله تعالى:
﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾(النساء: 48)
وقوله تعالى:
﴿ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ﴾(النساء: 50)
وواضح أن المراد بقوله تعالى في آية هود:
﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13)
أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن مفتريات. ويدل عليه أن ضمير الغائب في قوله تعالى:﴿ افْتَرَاهُ ﴾ يعود على قوله:﴿ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ من الآية السابقة، وهي قوله تعالى:
﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ﴾(هود: 12)
أما قوله تعالى في آية يونس:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38)
فالمراد به: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن مثل القرآن على وجه الافتراء، لا سورة واحدة مثله. والدليل على ذلك:
1- أن الضمير في:﴿ مِثْلِهِ ﴾ يعود على:﴿ هَذَا الْقُرْآَن ﴾ في الآية السابقة، لهذه الآية على أرجح الأقوال، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾(يونس: 37)
2- أن من معاني السُّورة في اللغة: المنزلة الرفيعة؛ ومنه قول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب
3- أن السُّورة- على ما قيل- هي كلٌّ متكامل، وتشتمل على ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب، وغير ذلك، وتطلق في الأكثر على السورة الواحدة من القرآن. وقد تطلق، ويراد بها القرآن كله- كما في هذه الآية الكريمة- ومثله في ذلك لفظ ( قرآن )، فإنه يطلق، ويراد به القرآن كله، وقد يراد به بعضه.
4- أنَّ آية يونس، التي تتحدى البشر أن يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ يأتي بعدها مباشرة قول الله تعالى:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾(يونس: 39)
أي: كذبوا بالقرآن؛ لأنهم لم يحيطوا بعلمه، الذي أحاط بكل شيء.
ولفظ ( سورة ) يتضمن معنى: السُّمو والرفعة، ومعنى: الإحاطة. ومعنى الإحاطة يتضمن: الاشتمال، والتمييز، وتحديد المعالم.
5- قرأ عمرو بن قائد:﴿ بسورةِ مثلِهِ ﴾ على الإضافة. أي: بكلام مثله. أي: مثل القرآن.
6- جاء في كتاب معاني القرآن:” وقيل: المعنى: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. والسورة قرآن، فكنَّى عنها بالتذكير على المعنى. ولو كان على اللفظ ، لقيل مثلها.
7- أنَّ لفظ ( سورة ) لم يذكر في أول خمسين سورة ، نُزِّلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد جاء التحدي ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ في سورة يونس، والتي هي السورة الواحدة والخمسين في ترتيب النزول.
ثم جاء التحدي ﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ في سورة هود، والتي هي السّورة الثانية والخمسين في ترتيب النزول. وهذا يعني أنّ العرب، في زمن الوحي، قد أَلِفَت معنى لفظ القرآن قبل أن تألف معنى لفظ السورة. وهناك الكثير من السُّور القصار، التي نزلت قبل أن يُسَمِّيَ القرآنُ الكريم كلَّ قطعة متكاملة باسم: سورة.
يتبع
| |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:21 am | |
| خامسًا- ثم احتج سبحانه على صحة القرآن، وأنه ليس بمتقوَّل، فقال:
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(الطور: 34)
والفاء هنا للتعقيب. أي: إذا كان القرآن متقوَّلاً كما يدعون، فيجب عليهم أن يأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين.
وقال تعالى هنا:﴿ فَلْيَأْتُوا ﴾، بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر، وبدون وساطة:﴿ قُلْ ﴾، خلافًا للآيتين السابقتين؛ إذ قال فيهما:﴿ قُلْ فَأْتُوا ﴾. والسِّرُّ في ذلك:
أولاً: أن التحدي بقوله تعالى:﴿ فَلْيَأْتُوا ﴾ تحدٍّ غير مباشر يعمُّ كلَّ من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن تارة، وافتراءه على ربه جل وعلا تارة أخرى. أما التحدي بقوله تعالى:﴿ قُلْ فَأْتُوا ﴾ فهو تحد مباشر، ويخصُّ كل من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم افتراء القرآن.
وثانيًا: أن التعبير بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر﴿ فَلْيَأْتُوا ﴾ يفيد تجدد التحدي واستمراره دون انقطاع، بخلاف صيغة الأمر﴿ فَأْتُوا ﴾؛ فإن التعبير بها يفيد احتمال وقوع الفعل مرة واحدة، ووقوعه أكثر من ذلك.
ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَا ﴾(إبراهيم: 31)
أي: يداوموا، ويواظبوا على ذلك دون انقطاع. والتقدير على أحد الأقوال: قل لعبادي الذين آمنوا، ليقيموا الصلاة، ولينفقوا مما رزقناهم.
سادسًا- وواضح مما تقدم أن المثلية المنصوص عليها في قوله تعالى:
﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى:
﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23)
هي غيرها في قوله تعالى:
﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37) ، وقوله تعالى:
﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13) ، وقوله تعالى:
﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34)
فتلك يراد بها المثل الموجود للقرآن في اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون، لا المثل المفترض، وأما هذه فالمراد بها أن يأتوا: بكلام أو قرآن مثل القرآن، وبعشر سور مفتريات مثل القرآن، وبحديث متقوَّل مثل القرآن. وهذا المثل لا وجود له في واقع الناس، لا على سبيل الافتراض، ولا على سبيل غيره؛ لأن الكلام هو كلام الله جل وعلا، وكلام الله لا يماثله كلام البشر، لاختلافه معه في الحقيقة والماهيَّة والجنس؛ كما أن ذات الله تعالى لا تماثلها ذات من ذوات البشر، للسبب ذاته..
ولكن الذين تحدثوا عن المثلية في آيات التحدي، لم يفرقوا بين مثلية، وأخرى، فهي مثلية واحدة عندهم، ومن ثمَّ زعموا أنها مثلية في البلاغة، أو الفصاحة، أو النظم، أو غير ذلك..
ونعود إلى هذه الآيات الثلاثة، فنجد أن المفسرين قد اتفقوا على أن المراد بالمثلية في آية هود:
﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾
مثلية في البلاغة والفصاحة وحسن النظم.
أما المراد بالمثلية في آية يونس:
﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾
فاختلفوا فيها- كما اختلفوا في غيرها- على أقوال:
أحدها: أنها مثلية في كثرة العلوم، والأحكام، والوعد والوعيد والإخبار عن الغيب.
والثاني: أنها مثلية في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم.
والثالث: أنها مثلية تامة في غيوب القرآن، وعلومه، ونظمه، ووعده ووعيده.
قال الثعالبي عند تفسير آية يونس﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾:” والتحدي في هذه الآية- عند الجمهور- وقع بجهتي الإعجاز، اللتين في القرآن: إحداهما: النظم والرصف والإيجاز والجزالة. والأخرى: المعاني من الغيب لما مضى، ولما يستقبل. وحين تحداهم بعشر مفتريات؛ إنما تحداهم بالنظم وحده “.
أما ابن عاشور فقال:” وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن. أي: تشابهه في البلاغة وحسن النظم “.
ثم قال:” فالمماثلة في قوله:﴿ مِثْلِهِ ﴾ هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته، لا في سداد معانيه. قال علماؤنا: وفي هذا دليل على أن إعجازه في فصاحته بقطع النظر عن علوِّ معانيه، وتصديق بعضه بعضًا “.
وكذلك اختلفوا في المراد بالمثلية في قوله تعالى في الطور:
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾
فقال أبو حيان:” أي: مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم “.
وقال ابن عاشور:” ومعنى المثلية في قوله:﴿ مِثْلِهِ ﴾: المثلية في فصاحته وبلاغته “.
وذهب الفخر الرازي إلى أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته، لا باشتماله على المغيبات، وكثرة العلوم؛ إذ لو كان كذلك، لم يكن لقوله سبحانه:﴿ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ معنى. أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة، صح ذلك؛ لأن فصاحة الكلام تظهر، إن صدقًا، وإن كذبًا.
قال الألوسي:” واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق “.
ولهذا فسر الألوسي المثلية هنا بقوله:” مماثل للقرآن في النعوت، التي استقل بها من حيث النظم، ومن حيث المعنى “.
إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا طائل من الجري وراءها وتتبعها؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا، ولا توضح معنى. وإذا اختلفت الأقوال، لم يكن بعضها أولى من بعض، وبخاصة إذا كانت تقوم على أساس هشٍّ، وفهم غير صحيح.
وهنا أذكر بما نقلته في مقالي ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ عن صاحب كتاب( أكذوبة الإعجاز العلمي في القرآن ) من قوله:
” لقد تحدى القرآن جميع البشر، فلم يستطع أحد أن يقاوم ذلك التحدي. والسؤال هو: ما شروط هذا التحدي ؟ لا يعقل أن تتحدى شخصًا مَّا بأن يأتي ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ دون أن تحدد الشروط، ودون أن تحدد ﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ في ماذا ؟ اللغة، الشرائع... إلخ “.
وأضاف قائلاً:
” هل الإعجاز في المعنى، أم في بناء الجملة، أم في النحو، أم البلاغة، أم إنه في جميعها ؟ وهل هو خاص بالعربية وأهلها فقط، أم إنه أيضًا قائم في حال الترجمة ؟ “.
وقلت تعقيبًا على ذلك:” هذه الأسئلة، التي يثيرها هذا الملحد- وهو محقٌّ في إثارتها وإن كان غرضه خبيثًا- هي مبنية في حقيقتها على ما دار، وما زال يدور، من خلاف بين المفسرين في تحديد المراد من هذه المثلية “.
وأقول هنا: هذه المثلية، التي تحدَّى الله تعالى بها الناس جميعهم، ولم يستطع أحد منهم أن يقاوم ذلك التحدي إما أن يكون المراد منها معلومًا. أو يكون مجهولاً. والثاني باطل حكمًا؛ لأن الله تعالى لا يمكن أن يتحدى خلقه بشيء لا يعلمون عنه شيئًا، فلم يبق إلا أن يكون المراد من هذه المثلية معلومًا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كان المراد من هذه المثلية معلومًا، فلمَ اختلف المفسرون، وما زالوا يختلفون في تحديد المراد منها ؟
هذا ما ينبغي الإجابة عنه.. وسأكتفي هنا بأن أذكر قول الخطابي، الذي ردَّ به على الجمهور، الذين يرون أن الله تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثل القرآن تماثله في البلاغة، فقال في مقدمة كتابه ( إعجاز القرآن ) تعقيبًا على القول السابق بعد أن ردَّ غيره من الأقوال:
” وهذا لا يقنِع في مثل هذا العلم، ولا يشفي من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أُحيل به على إبهام “.
وأعود بعد هذا إلى الآيات الثلاثة السابقة، فأقول: من تدبَّر هذه الآيات حق التدبُّر، وجد أن المراد بقوله تعالى:
﴿ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾
كما سبق أن ذكرنا: أن يأتوا بكلام، أو بقرآن، من غير تحديد الجهة التي يأتون به منها، يكون مماثلاً للقرآن في حقيقة وماهيَّته، لا في صفاته، وإن كان مفترى على حد زعمهم. فإن كانت لديهم القدرة على ذلك، استطاعوا أن يثبتوا أن هذا القرآن مفترى، وإلا فهو كما وصفه الله تعالى بقوله في الآية، التي سبقت هذه الآية، وهي قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(يونس: 37)
ولما ظهر عجزهم عن ذلك طالبهم الله تعالى أن يأتوا:
﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾
أي: مختلقات، إن صح عندهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم اختلقه من عنده، وكذب به على ربه. و﴿ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ لـ﴿ عَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾، وكان حقها أن تتقدم على ﴿ مِثْلِهِ ﴾، فيقال: بعشر سور مفتريات مثله. ولكنها أخرِّرت عن ﴿ مِثْلِهِ ﴾؛ لأن المثل هو المقصود بالتكليف، وأنه لو قدِّمت عليه، لتوهم أن القرآن مفترى، تنزه عن ذلك.
ولما ادعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن على ربه جل وعلا، قال تعالى:
﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾، ولم يقل:
﴿ فَلْيَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾
لأن لفظ ( الحديث ) يطلق على الكلام تارة، وعلى القصة والخبر تارة أخرى. وقد يكون ذلك صحيحًا، وقد يكون متقوَّلاً، فناسب المجيء به- هنا- ما تقدم من قوله تعالى:﴿ تَقَوَّلَهُ ﴾؛ لأن التقول- على ما تقدم- هو الكذب المخصوص.
بقي أن نشير إلى وجه الإعجاز في قوله تعالى:﴿ فَأْتُوا ﴾، وقوله:﴿ فَلْيَأْتُواْ ﴾، وكان يمكن أن يقال:{ فقولوا }،{ فليقولوا }. أو:{ فجيئوا }،{ فليجيئوا }، أو نحو ذلك من صيغ الطلب؛ ولكن جاء التعبير عن ذلك بالإتيان؛ لأن الإتيان- كما سبق أن ذكرت- يعني المجيء بالشيء، وجلبه بسهولة، إما بالاسترفاد من الغير، أو بالاختراع من الجالب، وليس كذلك القول.
ولهذا طلب الله تعالى منهم في آيتي ( يونس وهود ) أن يستعينوا بمن استطاعوا من خلق الله، لنصرتهم وإعانتهم على الإتيان بما تحداهم به، فقال سبحانه:
﴿ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾
والدعاء هنا هو طلب الغوث. إي: استغيثوا بمن استطعتم.
أما قوله تعالى:
﴿ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ، ﴿ إِن كَانُواْ صَـادِقِينَ ﴾
فالمراد به: إن كانوا صادقين في قولهم:﴿ افْتَرَاهُ ﴾ و﴿ تَقَوَّلَهُ ﴾؛ وذلك راجع إلى ما سبق من قولهم: إنه كاهن، وإنه مجنون، وإنه شاعر، وإنه مفترى، ومتقوِّل. ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك، لهان عليهم الإتيان بكلام مثله، أو بعشر سور مثله مفتريات، أو بحديث مثله متقوَّل.
وأكرر، فأقول: مثله في حقيقته وماهيَّته، لا في صفاته. وحقيقته وماهيته، لا يعلم كنهها أحد؛ لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا مغاير لكلام البشر في الحقيقة والماهية والجنس، كما أن ذاته الشريفة مغايرة لذوات البشر في الحقيقة والماهية والجنس. ومن هنا يأتي عجزهم عن الإتيان بشيء مما طلب منهم، قليلاً كان، أو كثيرًا. ولما ظهر عجزهم، علم أنهم كاذبون، وأن هذا القرآن الكريم:
﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ * وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ * وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
والحمد لله رب العالمين !
بقلم الأستاذ الباحث
محمد إسماعيل عتوك
يتبع
| |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:23 am | |
| أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ
قال الله تبارك وتعالى:﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تَحْرُثُونَ*أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾(الواقعة: 63- 65)
ثم قال:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ*أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾(الواقعة: 68- 70)
فأدخل اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله:﴿ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾، ونزعها منه في قوله:﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾.. ولسائل أن يسأل: لمَ أدخِلت اللام على الجواب الأول، ونزعت منه في الثاني ؟
وللنحاة والمفسرين في الإجابة عن ذلك أقوالٌ، ليس بعضها بأولى من بعض، وتتلخص في أن هذه اللام تدخل في جواب﴿ لَوْ ﴾زائدة، والغرض من زيادتها التوكيد، وأما خروجها منه فالغرض منه الإيجاز والاختصار. وأنه لما كان الوعيد بتحويل الزرع إلى حطام أشد وأصعب من الوعيد بتحويل الماء العذب إلى ماء ملح، احتاج الأول إلى تأكيده باللام، دون الثاني.
ويحتجون لذلك بأن الموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وأنه كثيرًا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة، أو السبخة أحالتها إلى الملوحة؛ فلذلك لم يحتج في جعل الماء العذب ملحًا إلى زيادة تأكيد. وأما الزرع فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد، وإذا وقع فلا يكون إلا عن سخط من الله شديد؛ فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره، وتقريره إيجاده.. إلى غير ذلك من الأقوال، التي لا تفسِّر أسلوبًا، ولا توضح معنى.
ومما يدلك على ضعف هذه الأقوال، وتكلفها في التأويل والتعليل ما ذكره الزركشي من تشبيه التوعُّد بجعل الماء أجاجًا بتوعُّد الإنسان عبده بالضرب بالعصا ونحوه، وتشبيه التوعُّد بجعل الزرع حطامًا بتوعُّده بالقتل. ولما كان الأول أسهل وأيسر، لم يحتج إلى تأكيد، كاحتياج الثاني إليه.
ومما ذكره الدكتور فاضل السامرائي في لمسات بيانية محتجًّا به على أن العقوبة بجعل الزرع حطامًا أشد من عقوبة جعل الماء أجاجًا، أن الماء الأجاج يمكن أن يحول إلى ماء عذب. وذكر أن التهديد لم يأت في الآية بغور الماء كليًّا كما في تهديد جعل الزرع حطامًا، فجاء باللام لتأكيد التهديد في آية الزرع، وحذفها من آية التهديد بالماء.
ولست أدري ما وجه الشبَه بين توعُّد الله تعالى الكفار بجعل ماء السحاب أجاجًا، وتوعُّد الإنسان عبده بضربه بالعصا، وبين توعُّدهم بجعل الزرع حطامًا بتوعُّد العبد بالقتل، حتى يقاس أحدهما بالآخر ؟ ثم إذا كان لدى الناس القدرة على تحويل الماء الأجاج إلى ماء عذب، فما قيمة أن يتوعَّدهم الله تعالى بذلك ؟ ثم كيف يمكن أن نفهَم من جعل الماء أجاجًا أن التهديد في الآية لم يأت بغَوْر الماء كليًّا ؟ وهل جاء التهديد فيها بغور الماء أصلاً، حتى يقال مثل هذا القول ؟
وليت شعري ماذا يقول أولئك الذين لا همَّ لهم سوى الطعن في بلاغة القرآن، وفصاحته، عندما يقرؤون مثل هذه الأقوال في تفسير كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، فضلاً عن أنه أنزل بلسان عربي مبين؛ ليبين للناس أمور دينهم، ويهديهم سنن الذين من قبلهم، ويرشدهم إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة ؟
ونعود بعد هذا إلى الإجابة عن السؤال، فنقول بعون الله وتعليمه: إن في نزع اللام من جواب ﴿ لَوْ ﴾ في قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾
إشارة إلى التعجيل بوقوع العقوبة عقب المشيئة فورًا دون تأخير. وفي إدخالها عليه في قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُلَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾
إشارة إلى تأجيل العقوبة لعقوبة أشدَّ منها؛ كقوله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾(يونس:24)
وقد جعل الله تعالى هلاك المهلَكين من الأمم الطاغية حصيدًا عقوبة لهم، فقال سبحانه:
﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾(هود:100) | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:25 am | |
| أي: منها هلك أهله دونه فهو باقٍ، ومنها هلك بأهله، فلا أثر له؛ كالزرع المحصود بالمناجل، بعضه قائمٌ على ساقه، وبعضه حصيدٌ. وحصيدُ هو فَعيلٌ من الحصْد، بمعنى: مفعول، وهو قطع الزرع في إبَّانه، واستئصاله من جذوره. وقد أفاد في الآية السابقة قطع الزرع واستئصاله في غير إبَّانه على سبيل الإفساد، ومنه استعير قولهم: حصدَهم السيفُ. ومنه- كما في مسند أحمد- قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:”وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم“.
وعليه يكون المعنى المراد من الآية: لو يشاء الله تعالى، لجعل الزرع، الذي ينبته من الحب حطامًا، عقوبة لهم على شركهم به، وتكذيبهم بآياته؛ ولكن اقتضت مشيئته سبحانه أن يؤجل هذه العقوبة لأشدَّ منها، كان ذلك ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الروم:6)، ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾(الحج: 47).
والمراد من جعل الزرع حطامًا جعله متكسِّرًا قبل الانتفاع به. وأما ما يؤول إليه الزرع من الحطام بعد الانتفاع به فذلك معلوم لكل أحد، ولا يكون التعبير عنه مشروطًا بـ( لو ) الشرطية؛ كما في قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾(الزمر:21)
فلإفادة هذا المعنى- أعني: تأجيل العقوبة لأشدَّ منها- أدخلت اللام على جواب﴿لَوْ ﴾. هذه اللام، التي أجمعوا على القول بزيادتها للتوكيد، وهم معذورون في ذلك، فأسرار القرآن الكريم أجلُّ، وأعظم من أن تحيط بها عقول البشر !
وأما قوله تعالى عن الماء:﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾ فالمعنى المراد منه: لو يشاء الله تعالى، جعل الماء المنزَّل من المزن أجاجًا لوقته دون تأخير، فلا ينتفع به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما؛ ولكنه تعالى لم يشأ ذلك رحمة بعباده، وفضلاً منه تعالى عليهم.
أما ما يؤول إليه الماء من الملوحة بعد نزوله من المزن، وجريه على الأراضي المتغيرة التربة، أو السبخة- كما قالوا- فذلك ما لم يُرَدْ من الآية الكريمة، وليس في الإخبار عنه أية فائدة تذكر. ويبيِّن لك ذلك أن الله تعالى قال:
﴿ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾، ولم يقل:﴿ جَعَلْنَاهُ ملحًا ﴾؛ لأن مياه الأرض كلها تحتوي على نسب من الأملاح متباينة. ومن هنا قلَّ الاقتصار على وصف الماء، الذي لا ينتفع به، بالملح في لغة العرب، وكثيرًا ما كانوا يقرنون هذا الوصف بوصف الأجاج؛ كما كانوا يقرنون وصف الماء العذب بوصف الفرات. وفي ذلك قال الله تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾(فاطر: 12)
فقابل سبحانه بين العذب والملح، وبين الفرات والأجاج. والماء العذب هو الطيب البارد.والماء الملح هو الذي تغير طعمه، وإذا كان لا ينتفع به في شرب، فإنه ينتفع به في غيره. والماء الفرات ما كان مذاقه مستساغًا، يضرب طعمهإلى الحلاوة، بسبب انحلال بعض المعادن والغازات فيه. والماء الأجاج هو الماء الزُّعَاقُ، وهو المرُّ، الذي لا يطاق، ولا ينتفع به في شرب، ولا غيره، لشدَّة مرارته وحرارته، وهو من قولهم: أجيج النار.
فإذا عرفت ذلك، تبيَّن لك سر الجمع بين الملح، والأجاج في وصف ماء البحر؛ إذ لو اقتصر في وصفه على كونه ملحًا، كان مثل أي ماء يجري على التربة المتغيرة، ويستقر في أعماق الأرض. ولو اقتصر في وصفه على كونه أجاجًا، كان ماؤه فاسدًا، لا ينتفع به في شيء مطلقًا.
وكذلك جعل ماء المزن أجاجًا. والمزن هو السحاب الأبيض المثقل بماء المطر، وهو أنقى ماءوأعذب. ولئن اجتمع الإنس والجن بما أوتوا من قوة على أن يعيدوا هذا الماء بعد جعله أجاجًا إلى حالته الأولى، لعجزوا عن ذلك، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
ومن هنا كان جعل هذا الماء أجاجًا- أي: شديد المرارة والحرارة لوقته دون تأخير- أدلَّ على قدرة الله تعالى، من جعل الزرع حطامًا، وإن كان الكل أمام قدرة الله سواء. ويدلك على ذلك أن قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا ﴾
قيل على طريقة الإخبار؛ لأن جعل الماء المنزل من المزن أجاجًا لوقته عقب المشيئة، لم يشاهد في الواقع؛ لأنه لم يقع، بخلاف جعل الزرع حطامًا؛ فإنه كثيرًا ما وقع كونه حطامًا بعد أن كان أخضرَ يانعًا، خلافًا لمن زعم خلاف ذلك. فلو قيل: جعلناه حطامًا، بإسقاط اللام؛ كما قيل: جعلناه أجاجًا، لتُوُهِّم منه الإخبار.
ويدلك على ذلك أيضًا أن دخول هذه اللام على جواب ﴿ لَوْ ﴾، لا يكون إلا في الأفعال، التي لا يُتخيَّل وقوعها؛ كما في قوله تعالى:
﴿ قَالُوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾(الأنفال: 31). أي: مثل القرآن.
﴿ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً ﴾(فصلت: 14)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ﴾(يس: 66)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ﴾(يس: 67)
﴿ وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ﴾(الزخرف: 60)
ونحو ذلك قوله تعالى:
﴿ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ﴾
فجعل الزرع حطامًا ممّا لا يتخيل وقوعه، وإن كان يقع؛ ولهذا قال تعالى عقِبه:
﴿ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴾
فأتى بفعل التفكُّه؛ لأن ذكر الحطام يلائم التفكُّه. ومعنى الاعتداد بالزرع، يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكُّه.
والمعنى: فظلتم تعجبون من هلاك زرعكم، وتندمون على ما أنفقتم فيه. وقيل: تلاومون، وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، التي أوجبت عقوبتكم، حتى نالتكم في زرعكم. والقولان مرادان يكمل أحدهما الآخر، والدليل على ذلك قوله تعالى:
﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾(الكهف:35)
إلى قوله تعالى:
﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾(الكهف: 42)
ألا ترى إلى قولهلفرط غفلته، وطول أمله، واغتراره بجنته:﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾. إنه لم يتخيل هلاكها أبدًا، فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك، ندم على ما صنع.
أما جعل الماء العذب أجاجًا فهو مما يتخيل وقوعه، وإن لم يقع. ومثله في تخيل الوقوع، والتعجيل به عقب المشيئة قوله تعالى:
﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾(الأعراف: 100)
ولهذا عقَّب تعالى على جعل الماء أجاجًا بقوله:
﴿ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴾
وهو تحضيض لهم على الشكر بإخلاص العبادة لله تعالى وحده على هذه النعمة، التي هي أعظم النعم.
يتبع
| |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| |
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:29 am | |
| الرسم القرآني وأسراره
إعداد المهندس محمد شملول
مهندس مدني وكاتب إسلامي مصري
إن القرآن الكريم الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقرأه أناء الليل وأطراف النهار ونتدبر كلماته ومعانيها هو نفسه الكتاب الذي أنزل من اللوح المحفوظ في شهر رمضان دون زيادة أو نقصان, حيث أنزله الله سبحانه وتعالى من اللوح المحفوظ جملة واحدة في ليلة القدر المباركة, قال الله عزّ وجل: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر{1}﴾[سورة القدر]. وقال سبحانه وتعالى: ﴿حم{1} والكتاب المبين{2} إنا أنزلناه في ليلة مباركة{3}﴾[الدخان].
فَوضِعَ في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم كان جبريل عليه السلام يَنزل به منجماً بالأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم. [1].
وأقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب المبين الذي أنزله بلسان عربي متحدياً البلغاء والشعراء أن يأتوا بسورة من مثله ولو كان بعضهم لبعض عوناً وظهيراً,
قال الله تبارك وتعالى: ﴿حم{1} والكتاب المبين{2} إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون{3}﴾.[الزخرف].
و(جعلناه) أي سميناه ووصفناه, ولذلك تعدى الفعل جعل إلى مفعولين.
و(قرآناً عربياً) أي أنزلناه بلسان العرب لأن كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه, وقال مقاتل: لأن لسان أهل السماء عربي.[2].
والقرآن الكريم ليس أمر ونهي وكلمات ومعاني فقط بل ورسم أيضاً
والمقصود بالرسم القرآني هو رسم الكلمات القرآنية من حيث نوعية حروف كل كلمة وردت في القرآن الكريم وعدد حروفها.
وليس المقصود منه نوعية خط الكتابة سواء نسخ أو كوفي أو غيره, فقد أجمع معظم العلماء أن رسم المصحف هو توقيفي لا يجوز مخالفته واستدلوا على ذلك من قول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى {1} مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى {2} وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى {5}﴾[سورة النجم].
وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان له كتّاب يكتبون الوحيكلما نزل شيء من القرآن أمرهم بكتابته, مبالغة في تسجيله وتقييده, وزيادة في التوثيق والضبط والاحتياط في كتاب الله تعالى, حتى تظاهر الكتابة الحفظ ويعاضد النقش اللفظ.
وقد كتبوا القرآن فعلا بهذا الرسم وأقرهم الرسول على كتابتهم, وكان هؤلاء الكتاب من خيرة الصحابة, فيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية وأبان بن سعيد وخالد بن الوليد وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت وثابت بن قيس.
ثم جاء الصديق أبو بكر رضي الله عنه فكتب القرآن بهذا الرسم في صحف, ثم حذا حذوه عثمان بن عفان رضي الله في خلافته فاستنسخ تلك الصحف في مصاحف وأقرَّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين. وانتهى الأمر إلى التابعين وتابعي التابعين فلم يخالف أحد منهم في هذا الرسم.{3}.
وبالرسم القرآني حروف كثيرة جاء رسمها مخالفا لأداء النطق, وكلمات تأتي في آيات قرآنية برسم مختلف, وكلمات أخرى تأتي برسم يختلف عن الرسم المعتاد. وكلمات تنقص أو تزيد حروفها. وكلّ ذلك لأغراض شريفة وهي من الأسرار التي خصّ الله بها كتابه العزيز. | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:32 am | |
| [وذكر العلامة ابن المبارك نقلا عن العارف بالله شيخه عبد العزيز الدباغ, إذ يقول في كتابه(( الإبريز)) ما نصه: ( رسم القرآن سرٌّ من أسرار الله المشاهدة وكمال الرفعة وهو صادرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر الكُّتاب من الصحابة أن يكتبوه على هذه الهيئة فما نقصوا ولا زادوا على ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على هذه الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول, وهو سر من الأسرار خصَّ الله تعالى به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية, وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه معجز, وكل ذلك لأسرار إلهية وأغراض نبوية, وإنما خفيت على الناس, لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهي بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور فإن لها أسراراً عظيمة ومعاني كثيرة, وأكثر الناس لا يهتدون إلى أسرارها, ولا يدركون شيئاً من المعاني الإلهية التي أُشيرَ إليها, فكذلك أمرُ الرسم الذي في القرءان حرفاً بحرف.
وقال الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله): تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف, أو غير ذلك.
وإنه لممّا يطمئن له القلب ويرتاح له الفكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أملى كتابة الرسم القرآني على كتّاب الوحي حسب الرسم المنزل عليه والذي نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام, ومما يؤيد ذلك أن أول كلمة قرآنية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كانت (اقرأ) وهي تعني اقرأ القرآن من الكتاب, حتى إنَّ الرسول الأكرم ردّ على جبريل عليه السلام قائلا: ما أنا بقارئ.
ولو كان قرءانا فقط لكانت أول كلمة هي: قل.
وقد ورد في السيرة النبوية لابن هشام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ..... الخ. وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين{2}﴾.[سورة البقرة].
إنها إشارة على الكتاب الذي جاء به جبريل حين قال له: اقرأ. كذلك فإن ما يؤيّد ذلك أيضاً قول الله تعالى: ﴿رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة, فيها كتب قيمة{2}﴾[البينة]. وقوله تعالى: ﴿بل هو قرآن مجيد{21} في لوح محفوظ{22}﴾[سورةالبروج].
وفي هذه الدراسة نتعرض لبعض هذه الكلمات القرآنية التي جاء رسمها مخالفاً للقواعد الإملائية ونحاول أن نتلمس الحكمة في ذلك لأننا نعتقد كما قال الإمام الرازي إن كل حرف وكل كلمة وكل حركة في القرآن الكريم لها فائدة, ونحاول في هذه الدراسة أن نلتمس الحكمة وبالطبع لن نصل إليها كاملة فهناك متسع لمزيد من الاجتهادات والتدبر في معاني هذه الكلمات القرآنية وأسرارها.
ونضرب هنا أمثلة لبعض الكلمات القرآنية التي جاءت على رسم مختلف.
- لماذا جاءت (بسم) بدون ألف حينما نسبت إلى لفظ الجلالة(الله) وجاءت برسمها المعتاد(باسم) حين نسبت إلى ربك.
- لماذا جاءت (رءى) في القرآن الكريم كلّه ما عدا موضعين اثنين فقط جاءت برسم (رأى).
- لماذا جاءت (تشاء) برسمها المعتاد في جميع القرآن الكريم ما عدا مرة واحدة فقط جاءت برسم مختلف( نشؤا).
- لماذا جاءت كلمة (تسطع) مرة واحدة ناقصة حرف تاء بهذا الرسم وكلمات أخرى كثيرة جاءت بشكل مختلف نتعرض لها في هذا القسم ذلك بعد دراسة الآيات الكريمة التي أحاطت بهذه الكلمات وتدبر المعاني التي احتوتها والغاية من ذلك. ومن خلال الدراسة لهذه الكلمات فقد تبين على وجه العموم الآتي:
- إن وجود كلمة قرآنية برسم مختلف في آية يلفت النظر إلى أن هناك أمراً عظيماً يجب تدبره.
- في حالة زيادة أحرف الكلمة عن الكلمة المعتادة فإن هذا يعني زيادة في المبنى يتبعه زيادة في المعنى.
- كذلك فإن زيادة المبنى يمكن أن يؤدي إلى معنى التراخي أو التمهل أو التأمل والتفكر أو انفصال أجزاءه.
- في حالة نقص حروف الكلمة فإن هذا يعني إما سرعة الحدث أو انكماش المعنى وضغطه أو تلاحم أجزائه.{5}.
هذا هو كتاب الله سبحانه وتعالى أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وأنزله الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم منجماً, وتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه من التحريف بالزيادة أو النقصان.
قال الله سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {9}﴾.[سورة الحجر].
يتبع
| |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:34 am | |
| الإعجاز في حذف بعض الأحرف من بعض الكلمات أ- حذف الألف
بسم – باسم
وردت كلمة (بسم) ثلاث مرات في القرآن (بخلاف فواصل السور):
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة: 1].
{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود: 41].
{ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [النمل: 30].
كما وردت كلمة (باسم) أربع مرات في القرآن:
قال الله تعالى: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 73-74].
{ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 95-96].
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1].
{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الحاقة: 51-52].
لماذا وردت كلمة (بسم) في الحالات الأولى مقصورة بدون ألف ووردت في الحالات الأخرى كلمة (باسم) كاملة بدون قصر.
إن حذف الألف من كلمة (بسم) والتي جاء بعدها لفظ الجلالة (الله) يدل ويوحي بأنه يجب علينا الوصول إلى الله سبحانه وتعالى وعمل الصلاة معه بأقصر الطرق وأسرع الوسائل وهو ما يدل عليه { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]، وهو الذي يوصل بأسرع وأقصر الطرق... والحرف الوحيد الذي يمكن حذفه من كلمة (باسم) دون تغيير نطق الكلمة هو حرف الألف.. لذا فقد تم حذفه للتوجه إلى الله وأخذ البركة منه في أي عمل نعمله بأسرع ما يمكن وبأقصر طريق... ولفظ الجلالة (الله) هو العلم على الذات الإلهية ولا يشاركه فيه أحد.. أما في الحالات الأخرى والتي ورد فيها (باسم) فإن كلمة (ربك) تأتي مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وخلقه فقد جاء في الآية 42 من سورة يوسف قوله للساقي: { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [يوسف: 42]...
إن حذف حرف من الكلمة يضغط مبناها ويسرع من واقعها فتؤدي المعنى المطلوب وهو السرعة على خير وجه وهذا إعجاز القرآن الكريم والرسم القرآني...
سموات – سموات
وردت كلمة (سموات) بهذا الرسم بدون ألف صريحة 189 مرة في القرآن الكريم كله... ووردت مرة واحدة فقط بألف صريحة بعد حرف (و) بالرسم القرآني (سموات) وذلك في الآية الكريمة رقم 12 من سورة فصلت والتي يقول سبحانه فيها: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ }...
وحين نتدبر هذه الآية الكريمة وما قبلها من آيات نجد أن القرآن الكريم يتعرض لقضية كبرى هي قضية خلق السماوات والأرض وترتيب هذا الخلق ومدته وتقدير الأقوات في الأرض لذا فإن القضية مهمة جداً وتحتاج إلى تدبر وتفكر وعليه فقد جاءت كلمة (سموات) بالرسم الغير عادي هذه المرة لتفت النظر إلى ضرورة الوقوف وتدبر المعاني الجليلة لهذه الآيات والتي صعب فهمها على بعض الناس خاصة في حساب أيام الخلق الستة حيث لم يقدّر لهم فهم جملة (أربعة أيام سواء) بأن هذه الأيام تشمل يومي خلق الأرض والتي قول فيها سبحانه: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت: 9-12].
الميعاد – الميعـد
وردت كلمة (الميعاد) وذلك بألف صريحة في وسط الكلمة 5 مرات في القرآن الكريم كله... وكلها تتكلم عن الميعاد الذي وعده الله.. لذلك جاء هذا الميعاد واضحاً وصريحاً ولا ريب فيه..
ونذكر فيما يلي الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمة (الميعاد):
قال تعالى:
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 9].
{ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [آل عمران: 194].
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } [الرعد: 31].
{ { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ } [سبأ: 30].
{ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } [الزمر: 20].
غير أن هذه الكلمة وردت مرة واحدة فقط وذلك برسم يختلف بدون ألف صريحة على شكل (الميعـد) وذلك حين نسب هذا الميعاد إلى البشر حيث قال تعالى: { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَـدِ } [الأنفال: 42].
سعوا – سعو
وردت (سعوا) بشكلها العادي مرة واحدة، ووردت (سعو) بشكلها الغير عادي بدون ألف في آخرها مرة واحدة أيضاً في القرآن الكريم كله، وتوحي كلمة (سعو) بنقص الألف في آخرها أن هذا السعي سريع جداً وكله نشاط وهو حسب الآية الكريمة سعي في إنكار آيات الله وهو ما جلب على الكافرين عذاب من رجز أليم في الدنيا... بالإضافة إلى عذاب جهنم في الآخرة..
- { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [الحج: 51].
- { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } [سبأ: 5]. أي في الدنيا بالإضافة إلى عذاب الآخرة.
صحب – صاحب
في الآية 34 من سورة الكهف يقول القرآن الكريم على لسان مالك الجنين: { فَقَالَ لِصَـحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ }. حيث جاءت كلمة (صـحبه) بألف متروكة لتبين ما كان يظنه مالك الجنتين من أن صاحبه ملتصق به التصاقاً كاملاً سواء في الرفقة أو الإيمان...
غير أن الرد يأتيه من صاحبه المؤمن في الآية 37 من نفس السورة: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } حيث جاءت كلمة (صاحبه) بألف صريحة فارقة لتوضح لقارئ القرآن أن هذه الصحبة في الرفقة فقط وأما في الإيمان فهناك افتراق ومسافة بينهما.. وقد جاء هذا المعنى أيضاً واضحاً في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما نُسب إلى قومه فجاءت كلمة (صاحبكم) بالألف الصريحة مفرقة بينه وبين قومه في الإيمان بالرغم من مصاحبته لهم في المكان والزمان.. وذلك في الآيات الكريمة الآتية:
{ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } [سبأ: 46].
{ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [النجم: 2].
{ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22].
{ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ } [الأعراف: 184].
غير أنه حين يتكلم القرآن الكريم عن سيدنا أبي بكر صاحب رسول الله تأتي (صـحبه) بألف متروكة لتبين مدى الالتصاق بينهما وتوضح الصحبة الحقيقية في الرفقة والإيمان:
{ إِذْ يَقُولُ لِصَـحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة: 40]، وهذا يبين جزءاً من الحكمة في كتابة الكلمة القرآنية باستخدام الألف الصريحة والمد بالألف المتروكة كما سبق أن أوضحنا...
حذف حرف الواو
من بعض الأفعال
ورد في كتاب (مناهل العرفان) للزرقاني: أنه تم كتابة هذه الأفعال الأربعة بحذف الواو وهي:
(ويدعو الإنسان – ويمحو الله الباطل – يوم يدعو الداع – سندع الزبانية) ولكن من غير نقط ولا شكل في الجميع.
قالوا: والسر في حذفها من (ويدع الإنسان) هو الدلالة على أن هذا الدعاء سهل على الإنسان يسارع فيه كما يسارع إلى الخير....
والسر في حذفها من (ويمح الله الباطل) الإشارة إلى سرعة ذهابه واضمحلاله...
والسر في حذفها من (يوم يدع الإنسان) الإشارة إلى سرعة الدعاء وسرعة إجابة الداعين...
والسر في حذفها من (سندع الزبانية) الإشارة إلى سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش.. ويجمع هذه الأسرار قول المراكشي: (والسر في حذفها سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود).
وسئل – فسئل
ورد في القرآن الكريم كله فعل الأمر من (سأل) ناقصاً حرف (ا) في البداية... ونذكر فيما يلي نماذجاً من الآيات الكريمة التي ورد فيها هذا الفعل:
قال تعالى: { فَسْئلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [يونس: 94].
- وقال تعالى: { وَسْئلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82].
- وقال تعالى: { وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } [النساء: 32].
- وقال تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43].
ويدل حذف حرف (ا) من مبنى الكلمة الأصلية وهو (اسئل) أو (اسأل) على أن الكلمة القرآنية في رسمها تعبر عن المعنى أصدق تعبير إذ أن السؤال دائماً يأتي في عجلة وسرعة فقلما ينتظر الإنسان فهو دائماً يريد سرعة الإجابة.. لذلك جاءت كلمة (سئل) في فعل الأمر ناقصة حرفاً لتحض على سرعة السؤال انتظاراً لسرعة الإجابة.
وكما ذكرنا فإن نقص مبنى الكلمة يدل على العجلة والسرعة وعدم الصبر....
أيد – أييد
وردت كلمة (أيد) وهي جمع (يد) مرتين في القرآن الكريم كله بهذا الرسم العادي وذلك في الآيتين التاليتين:
قال تعالى: { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } [الأعراف: 195].
وقال تعالى: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 17].
غير أنها وردت مرة واحدة برسم مختلف يزيد حرف (ي) في منتصفها وذلك في الآية الكريمة الآتية:
قال تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47].
وكما سبق أن ذكرنا فإن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى فهل هناك أشد من خلق السماء...؟
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } [النازعات: 27]، إن زيادة حرف (ي) في كلمة (أيد) يوضح قوة وشدة السماء ومتانة سمكها وبنائها...
يتبع
| |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:38 am | |
| الفرق بين النصيب والكفل
قال الله تعالى:﴿ مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾( النساء: 85 )
فاستعمل سبحانه لفظ ( النصيب ) مع الشفاعة الحسنة، واستعمل لفظ ( الكفل ) مع الشفاعة السيئة، فدل على أن بينهما فرقًا في المعنى.
وأكثر المفسرين على القول بأن النصيب، والكفل بمعنى واحد، وهو الحظ، أو المِثْل، إلا أن الثاني أكثر ما يستعمل في الشر؛ كاستعماله- هنا- في الشفاعة السيئة.
وفرَّق بعضهم بينهما بأن النصيب يزيد على المثل، والكفل هو المِثْلُ المساوي، فاختار تعالى النصيب مع الشفاعة الحسنة؛ لأن جزاء الحسنة يضاعف بعشرة أمثالها، واختار الكِفْلَ مع الشفاعة السيئة؛ لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها.
وهذا القول مبنيٌّ على اعتبار أن ( من ) في قوله تعالى:﴿ مِنْهَا ﴾، في الموضعين، للسبب، وعلى اعتبار أن جزاء الشفاعة الحسنة كجزاء فعل الحسنة، وجزاء الشفاعة السيئة كجزاء فعل السيئة، قياسًا على قوله تعالى:
﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾( الأنعام: 160 ).
وعليه يكون المعنى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب بسببها، ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل بسببها. أي: يكن لكل منهما ذلك بسبب شفاعته.. وهذا خلاف ما نصَّت عليه الآية الكريمة من المعنى تمامًا؛ لأن ( من ) في قوله تعالى:﴿ مِنْهَا ﴾، في الموضعين، ليست للسبب؛ وإنما هي للتبعيض. والمراد من الآية الكريمة: أن للشفيع، الذي يشفع في الحسنة، نصيبًا من جزاء المشَفَّع على شفاعته، وأن للشفيع، الذي يشفع في السيِّئة كِفْلاً من جزاء المشَفَّع على شفاعته.
فههنا شَفيعٌ، ومُشَفَّعٌ، ومُشَفَّعٌ له، وشَفاعَةٌ. والشفاعةُ نوعان: حسنة، وسيئة. فالشفاعة الحسنة هي التي يُراعَى بها حق المسلم، فيُدفَع بها عنه شر، أو يُجلَب بها إليه خير، ابتغاء مرضاة اللهتعالى. وأما الشفاعة السيئة فهي التي تكون في معصية الله ابتغاء لجاه أو غيره، وأعظمُها جُرْمًا ما كان في حَدٍّ من حدود الله تعالى.
وورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:” من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى، فقد ضادَّ الله تعالى في ملكه، ومن أعان على خصومة بغير علم، كان في سخط الله تعالى حتى ينزع “. قال الألوسي تعقيبًا على الخبر:” واستثني من ذلك الحدود في القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الديَّة غير محرمة “.
وروى أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” مَنْ شَفَعَ لأحَدٍ شَفَاعَةً ، فأهدى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا ، فَقَبِلَهَا ، فَقَدْ أتى بَاباً عَظِيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا “.
وروت عائشة- رضي الله عنها- في الحديث الصحيح:” أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ وَأََيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا “.
فإذا كانت الشفاعة في حق، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ حسنٌ. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( النصيب )، ومعناه في اللغة: الحظ الجيد المعيَّن من الشيء. تقول: هذا نصيبي. أي: حظي. قال تعالى:
﴿ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾( النساء: 7 ).
ثم قال:﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ﴾( النساء: 11 )، فدل على أن النصيب هو الحظ المعين، وأن هذا النصيب تابع للتركة في الزيادة، والنقصان. ونحو ذلك قول إبليس اللعين:﴿ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾( النساء: 118 )
واشتقاقه من النَّصْب، بإسكان الصاد، وهو إقامة الشيء في استواء، وإهْداف، ووضعُه موضعًا ناتئًا؛ كنصْب الرمح، والحجر في الأرض.والنصْبُ، والنصيبُ حجر كان ينصَبفي الأرض، فيعبَده العرب في الجاهلية.
وإذا كانت الشفاعة في باطل، كان لصاحبها من أجرها، الذي يستحقه المُشفَّع أجرٌ رديء. وهذا ما عَبَّر عنه تعالى بلفظ ( الكفل )، وهو من الأجر والإثْم: الضِّعْفُ، في أصح الأقوال. وأصله مركَب يُهَيَّأ على ظهر البعير، أو كساء يدار حول سنامه، وأكثر ما يستعمل في الشرِّ. ومنه ما جاء في الصحيحين من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ “.. وقد يستعمل في الخير، ومنه قول الله تعالى:
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾( الحديد: 28 )
ولهذا كانت عقوبة الشفاعة السيئةفي الإثم، والمؤدية إلى إسقاط الحقعظيمة عند الله تعالى تتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ الكفل، وليس كذلك السيئة، التي تجزى بمثلها. وكذلك كان ثواب الشفاعة الحسنة المؤدية إلى إحقاق الحق يتناسب مع المعنى، الذي يؤديه لفظ النصيب. فإذا عرفت ذلك، تبين لك السِّرُّ في اختيار ( النصيب ) للشفاعة الحسنة، و( الكفل ) للشفاعة السيئة ترغيبًا في الأولى، وتنفيرًا من الثانية.
ومما ينبغي أن يعلَم أيضًا أن الحديث عن الشفاعة بنوعيها يخص قومًا بعينهم، وأن أصحاب الشفاعة السيئة أكثر من أصحاب الشفاعة الحسنة، وأن وجودهم في المجتمع من أخطر الآفات، التي تهدد سلامته؛ ولهذا كانت عقوبتهم مضاعفة. أما الحديث عن فعل الحسنة، وفعل السيئة فهو حديث عام يعم أفراد المجتمع كلهم. ومن لطف الله تعالى بعباده أن جعل جزاء السيئة سيئة مثلها، ومن منِّه وكرمه سبحانه أن جعل جزاء الحسنة بعشرة أمثالها، ويزيد من فضله لمن يشاء. ومن هنا لا يجوز قياس الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة على فعل الحسنة وفعل السيئة.
وشيء آخر ينبغي أن يعلم ، وهو أنه لما كان الجزاء بالنصيب، والكفل من الأمور، التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله:
﴿ وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً ﴾
فبين سبحانه أنه كان وما زال ولا يزال شاهدًا وحفيظًا وحسيبًا على هذه الأعمال، ومجازيًا على كل عمل بما يناسبه ، وقادرًا على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه كاملاً، لا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع.
والمُقيت من أسماء الله تعالى، وفسّره الغزالي بموصل الأقوات، فيؤول إلى معنى الرازق، إلا أنه أخص، وبمعنى المستولي على الشيء، القادر عليه، فيكون راجعًا إلى القدرة والعلم. والظاهر أنه جامع للمعاني السابقة كلها.. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسؤول .
محمد إسماعيل عتوك
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:41 am | |
| مثل الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية
قال الله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ (إبراهيم 18)
ضرب الله تعالى هذه الآية الكريمة مثلاً، شبَّه فيه الأعمال التي تكون لغير الله تعالى برماد، اشتدت به الريح في يوم عاصف، فطيرته، وفرقت أجزاءه في جهات هبوبها، ولم تبق له على أثر، ولا خبر. كذلك تعصف رياح الكفر، والأهواء الفاسدة بالأعمال، التي تبنى على أساس غير صحيح، فتفسدها، وتجعلها مع أصحابها طعمة للنار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى، لمَّا ذكر أنواع عذاب الكافرين في الآية المتقدمة، بين في هذه الآية أن الأعمال، التي لا يقصد بها وجه لله تعالى هي أعمال باطلة، لا ينتفع أصحابها بشيء منها في الآخرة. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم؛ لأنهم لا يجدون إلا العقاب الشديد، وكل ما عملوه في الدنيا يجدونه ضائعًا باطلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ولفظ ﴿ مَثَلٍ ﴾ عند الزمخشري وغيره مستعار للصفة، التي فيها غرابة. وارتفاعه في مذهب الجمهور على الابتداء، خبره محذوف، تقديره عند سيبويه والأخفش: فيما يتلى عليكم، أو يقصُّ عليكم. وجملة ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾مستأنفة على تقدير سؤال؛ كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. وعليه يكون تقدير الكلام: صفة الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد. كقولك: صفة زيد، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مَبذولٌ.
ومذهب الفراء: أن﴿ مَثَل ﴾مبتدأ، خبره﴿ كَرَمَادٍ ﴾. والتقدير عنده: مثل أعمال الذين كفروا كرماد. وفي تفسير ذلك والتعليل له قال الفرَّاء:” وقوله:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ أضاف المَثَل إليهم، ثم قال:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ ﴾. والمَثَل للأعمال “.
وحكى ابن عطية عن الكسائي والفراء أن المعنى على إلغاء لفظ ﴿ مَثَل ﴾، وأن أصل الكلام: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾، بإسقاط لفظ ﴿ مَثَل ﴾، فيكون كقوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39).
ولكن ظاهر قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ. ومَثَلُهم هو المماثلُ لهم في تمام أحواهم وصفاتهم. أي: المطابق، أو المساوي. وهو كقولنا: مَثَلُ زيد، عملُه قبيحٌ. فالعمل القبيح- هنا- لا يعود على زيد؛ وإنما يعود على مَثلِ زيد. وهذا يعني أن لزيد مثلاً يماثله في تمام أحواله وصفاته. وهذا المَثَلُ قد يكون عمروًا، أو بكرًا، أو غيرهما. وكذلك قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ، يماثلهم في تمام أحواهم وصفاتهم. وعليه تكون الأعمال المشبهة بالرماد في قوله تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾هي أعمال مَثَلِ الذين كفروا بربهم، لا أعمالهم هم، خلافًا للأعمال، التي في قوله تعالى:﴿ أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾من آية النور. ويمكن ملاحظة الفرق بين الآيتين من خلال المقارنة بينهما:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39)
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾(إبراهيم 18)
فالأعمال المشبهة بالسراب في آية النور هي أعمال الذين كفروا. والأعمال المشبهة بالرماد في آية إبراهيم هي أعمال مَثَل الذين كفروا بربهم. وهذا واضح جلي، وهو أحد أوجه الفرق بين الآيتين الكريمتين. ولو كانتا سيَّان، لمَا كان لذكر لفظ ﴿ مَثَل ﴾في مطلع آية إبراهيم أيَّ معنى، ولكان زائدًا، دخوله في الكلام، وخروجه منه سواء- كما حكِيَ ذلك عن الكسائي والفراء- وهذا ما يأباه نظم القرآن الكريم وأسلوبه المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه!
وعليه يكون قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾مبتدأ، خبره جملة:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾من المشبه، والمشبه به. وهذا من أحسن ما قيل في إعراب هذه الآية الكريمة.
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:44 am | |
| مثل الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ
بقلم الأستاذ محمد إسماعيل عتوك
باحث لغوي في الإعجاز البياني
للقرآن الكريم ومدرس للغة العربية
قال الله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ (إبراهيم 18)
ضرب الله تعالى هذه الآية الكريمة مثلاً، شبَّه فيه الأعمال التي تكون لغير الله تعالى برماد، اشتدت به الريح في يوم عاصف، فطيرته، وفرقت أجزاءه في جهات هبوبها، ولم تبق له على أثر، ولا خبر. كذلك تعصف رياح الكفر، والأهواء الفاسدة بالأعمال، التي تبنى على أساس غير صحيح، فتفسدها، وتجعلها مع أصحابها طعمة للنار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى، لمَّا ذكر أنواع عذاب الكافرين في الآية المتقدمة، بين في هذه الآية أن الأعمال، التي لا يقصد بها وجه لله تعالى هي أعمال باطلة، لا ينتفع أصحابها بشيء منها في الآخرة. وعند هذا يظهر كمال خسرانهم؛ لأنهم لا يجدون إلا العقاب الشديد، وكل ما عملوه في الدنيا يجدونه ضائعًا باطلاً، وذلك هو الخسران المبين.
ولفظ ﴿ مَثَلٍ ﴾ عند الزمخشري وغيره مستعار للصفة، التي فيها غرابة. وارتفاعه في مذهب الجمهور على الابتداء، خبره محذوف، تقديره عند سيبويه والأخفش: فيما يتلى عليكم، أو يقصُّ عليكم. وجملة ﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾مستأنفة على تقدير سؤال؛ كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. وعليه يكون تقدير الكلام: صفة الذين كفروا بربهم، أعمالهم كرماد. كقولك: صفة زيد، عِرْضُه مَصُونٌ، ومالُه مَبذولٌ.
ومذهب الفراء: أن﴿ مَثَل ﴾مبتدأ، خبره﴿ كَرَمَادٍ ﴾. والتقدير عنده: مثل أعمال الذين كفروا كرماد. وفي تفسير ذلك والتعليل له قال الفرَّاء:” وقوله:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ﴾ أضاف المَثَل إليهم، ثم قال:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ ﴾. والمَثَل للأعمال “.
وحكى ابن عطية عن الكسائي والفراء أن المعنى على إلغاء لفظ ﴿ مَثَل ﴾، وأن أصل الكلام: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾، بإسقاط لفظ ﴿ مَثَل ﴾، فيكون كقوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39).
ولكن ظاهر قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ. ومَثَلُهم هو المماثلُ لهم في تمام أحواهم وصفاتهم. أي: المطابق، أو المساوي. وهو كقولنا: مَثَلُ زيد، عملُه قبيحٌ. فالعمل القبيح- هنا- لا يعود على زيد؛ وإنما يعود على مَثلِ زيد. وهذا يعني أن لزيد مثلاً يماثله في تمام أحواله وصفاته. وهذا المَثَلُ قد يكون عمروًا، أو بكرًا، أو غيرهما. وكذلك قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾ يقتضي أن يكون للَّذِينَ كَفَرُوا بربهم مَثلٌ، يماثلهم في تمام أحواهم وصفاتهم. وعليه تكون الأعمال المشبهة بالرماد في قوله تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾هي أعمال مَثَلِ الذين كفروا بربهم، لا أعمالهم هم، خلافًا للأعمال، التي في قوله تعالى:﴿ أَعْمَـالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾من آية النور. ويمكن ملاحظة الفرق بين الآيتين من خلال المقارنة بينهما:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ﴾(النور:39)
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾(إبراهيم 18)
فالأعمال المشبهة بالسراب في آية النور هي أعمال الذين كفروا. والأعمال المشبهة بالرماد في آية إبراهيم هي أعمال مَثَل الذين كفروا بربهم. وهذا واضح جلي، وهو أحد أوجه الفرق بين الآيتين الكريمتين. ولو كانتا سيَّان، لمَا كان لذكر لفظ ﴿ مَثَل ﴾في مطلع آية إبراهيم أيَّ معنى، ولكان زائدًا، دخوله في الكلام، وخروجه منه سواء- كما حكِيَ ذلك عن الكسائي والفراء- وهذا ما يأباه نظم القرآن الكريم وأسلوبه المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه!
وعليه يكون قوله تعالى:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾مبتدأ، خبره جملة:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾من المشبه، والمشبه به. وهذا من أحسن ما قيل في إعراب هذه الآية الكريمة.
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:46 am | |
| وأما الفرق الثاني بين الآيتين فإن المراد بقوله تعالى:﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾- في آية النور- العموم، ويندرج في عمومه كل من كفر من الأمم السابقة، والأمم اللاحقة إلى يوم يبعثون. أما قوله تعالى:﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾- في آية إبراهيم- فالمراد بـهم الكفار من الأمم السابقة؛ ولهذا جاء ذكرهم مقيدًا بقوله تعالى:﴿ بِرَبِّهِمْ ﴾، تمييزًا لهم من غيرهم. فأولئك مثل لهؤلاء، وقد ورد ذكر بعضهم في سورة إبراهبم قبل هذه الآية على لسان موسى- عليه السلام- وذلك في معرض خطابه لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم من الأمم المكذبة:
﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾(إبراهيم:8- 9)
وبعد أن حكى الله تعالى عن الرسل- عليهم السلام- اكتفاءهم في دفع شرور هؤلاء الكفار بالتوكل على ربهم، والاعتماد على حفظه ورعايته، حكى سبحانه وتعالى عن بعض المتمردين في الكفر أنهم بالغوا في السفاهة، فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة؛ وذلك قوله تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ﴾(إبراهيم:13-17)
وفي ظل هذا المصير، الذي انتهى إليه هؤلاء الكفار من الأمم الغابرة جاء التعقيب مثلاً، يصوِّر الله تعالى فيه أعمالهم على طريقة القرآن المبدعة بصورة رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، فقال سبحانه:
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ﴾(إبراهيم:18)
فجمع بين أعمالهم، وأعمال من جاء من بعدهم من الذين كفروا بربهم في هذا التمثيل العجيب؛ إذ بأولئك الكفار الغابرين تضرَب الأمثال لكل من ماثلهم ممَّنْ جاء بعدهم من الكفار اللاحقين، في كفرهم بالله سبحانه وبآياته، وإنكارهم للبعث، ومحاربتهم لرسله- عليهم السلام- وصدهم عن سبيله، ولكل مَنْ كانت أعماله مماثلة لأعمالهم من غير الكافرين بربهم.
ومن المعلوم أن الكفار المتأخرين قد سلكوا في الكفر والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، ومنهم كفار مكة، الذين أخبر الله تعالى في قوله مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم:
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾(فاطر:25)
وكما حكى الله تعالى عن الفئة الضالة من الأمم السابقة قولهم لرسلهم:
﴿ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾(إبراهيم:13)
كذلك أخبر سبحانه عن كفار مكة، فقال تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام:
﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ (الإسراء:76)
ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك سنته في رسله وعباده، فقال:
﴿ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾(الإسراء:76)
وتقتضي سنة الله تعالى في عباده أن يحكم على الفرع بحكم الأصل، فيما تكون فيه المماثلة. فإذا كان الأصل محكومًا عليه بالهلاك، وعلى أعماله بالفساد، فكذلك الفرع.
وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم:
﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:38)
فقوله تعالى:﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴾عبارة تجمع الوعيد والتهديد، والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله. والمعنى المراد: مضت سنة الله تعالى فيمن سلف من الكافرين بالهلاك، فيصيب الآخرين مثل ما أصاب الأولين.
وكما يطلق لفظ { المَثَل }على الفرع، كذلك يطلق على الأصل، ومن ذلك قوله تعالى في حق كفار مكة:
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الزخرف: أي: مضى حالهم، الذي كانوا عليه من الكفر والتكذيب والإهلاك، وخلفه حال مماثل له؛ هو حال كفار مكة، وغيرهم. والأول أصل، والثاني فرع، والعلة الجامعة بينهما: الكفر والتكذيب، والحكم: الهلاك. والمعنى: أن كفار مكة سلكوا في الكفر، والتكذيب مَسْلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم.
ونظير ذلك قوله تعالى في حق فرعون وجنوده:
﴿ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ﴾ (الزخرف:55-56)
أي: فلما أغضبوا الله سبحانه بأعمالهم القبيحة، انتقم منهم، بأن أغرقهم أجمعين. وهذا الانتقام قد جعله سلفًا يتعظ به الغابرون، ومثلاً يعتبر به المتأخرون، ويقيسون عليه أحوالهم. وقد قال الله تعالى محذِّرًا:
﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ﴾(المرسلات:16- 18)
وإذا كان الأولون محكومًا عليهم بالهلاك، فمن باب أولى أن تكون أعمالهم محكومًا عليها بالفساد وعدم النفع. تأمل ذلك في قوله تعالى:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف:138-139)
أي: هم وما يعبدون هالك لا محالة، وأعمالهم ذاهبة مضمحلة. وهؤلاء القوم- على ما قيل- كانوا من العمالقة، الذين أمر موسى- عليه السلام- بقتالهم. وقال قتادة: كانوا من لَخْمٍ، وكانوا نزولاً بالرَّقَّة. وقيل: كانت أصنامهم تماثيل بقر؛ ولهذا قالوا:
﴿ يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴾
فأخرج لهم السَّامِرِيُّ عجلاًُ.
ونظير قولهم هذا قول جهال الأعراب لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد رأوا شجرة خضراء للكفار تسمَّى: ذات أنواط، يعظمونها في كل سنة يومًا- فقالوا:”يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط؛ كما لهم ذات أنواط. فقال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر! قتلتم- والذي نفسي بيده- كما قال قوم موسى:
﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾
لتركبن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى إنهم لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه “. وكان هذا في مخرجه صلى الله عليه وسلم إلى حنين.
ونظير هؤلاء المنافقون، الذين قال الله تعالى فيهم:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ * وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾(التوبة:53- 54)
وغير هؤلاء كثير.
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:48 am | |
| وقوله تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾الأعمال فيه جمع: عمل. والعمل يطلق على كل فعل، يكون من الإنسان بقصد، فهو أخصُّ من الفعل؛ لأن الفعل قد ينسب إلى الإنسان، الذي يقع منه فعل بغير قصد. وقد ينسب إلى الجماد. والعمل قلما ينسب إلى ذلك؛ ولهذا قال تعالى:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾، ولم يقل سبحانه:﴿أَفْعَالُهُمْ كَرَمَادٍ ﴾.
أما الرماد فهو ما بقي بعد احتراق الشيء. وفي لسان العرب:” الرمادُ: دُقاقُ الفحم من حُراقة النار، وما هَبَا من الجمر فطار دُقاقًا. وفي حديث أم زرع: زوجي عظيم الرماد. أي: كثير الأضياف؛ لأن الرماد يكثر بالطبخ“. ولهذا كان تنكيره في الآية منبِئًا عن ضآلته وخفته، بخلاف ما لو كان معرَّفًا.
وتشبيه الأعمال بهذا الرماد الضئيل الخفيف ينطوي على سرٍّ بديع من أسرار البيان القرآني؛ وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم، وبين الرماد في إحراق النار، وإذهابها لأصل هذا وهذا؛ فكانت الأعمال التي لغير الله، وعلى غير مراده طعمة للنار، وبها تسعر النار على أصحابها، وينشىء الله سبحانه لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا؛ كما ينشىء لأهل الأعمال الموافقة لأمره ونهيه، التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا وروحًا. فأثرت النار في أعمال أولئك، حتى جعلتها رمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون الله وقود النار.
ولو شبهت هذه الأعمال بلفظ آخر غير الرماد، كالتراب مثلاً، فقيل:﴿ أَعْمَالُهُمْ كَتُرَابٍ ﴾، لما أفاد ذلك ما أفاده لفظ الرماد من معنى الخفة، والاحتراق، وعدم الانتفاع، والعجز عن الاستدراك.
وتأمل هذه الكاف في قوله تعالى:﴿كَرَمَادٍ ﴾، كيف جعلت هذه الأعمال في مرتبة أدنى من مرتبة ذلك الرماد الضئيل في حقيقته وصفاته، ووراء ذلك ما وراءه من إزراء لها، واستخفاف بأصحابها. ولو قيل:﴿ أَعْمَالُهُمْ مِثْلُ رَمَادٍ ﴾، لما أفاد التشبيه هذا المعنى، الذي ذكرناه؛ لأن لفظ المِثْل يجعل الممثَّل، والممثَّل به في مرتبة واحدة؛ لأنه لفظ تَسْوِيَة، فيقتضي المساواة بينهما في تمام الصفات.
أما قوله تعالى:﴿ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ﴾ فهو كناية عن سرعة هذه الريح وقوتها. يقال: اشتدَّت الريح. أي: أسرعت بقوة. وتعدية الفعل بالباء، دون تعديته بعلى يفيد أن هذه الريح حملت الرماد، وأسرعت الذهاب به، وبددته في جهات هبوبها؛ بحيث لا يقدر أحد على الإمساك بشيء منه، بخلاف قولنا: اشتدت عليه؛ فقد تشتد الريح عليه، وهو ثابت في مكانه، لا يتبدد.
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود, يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى, لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها, ولا الانتفاع به أصلاً.. يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك, فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددًا.فكما تعصف الريح الشديدة بالرماد، وتذهب به في جهات هبوبها؛ كذلك تعصف رياح الكفر والنفاق بالأعمال، التي تكون لغير الله جل وعلا، وعلى غير طاعة الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى:
﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ﴾(الفرقان:23)
و﴿الرِّيحُ ﴾- على ما قيل- هي الهواء المتحرك، وتجمع على: أرواح ورياح. وعامة المواضع، التي ذكر فيها لفظ ﴿الرِّيحِ ﴾بصيغة المفرد في القرآن، فعبارة عن العذاب. وكل موضع ذكر فيه بصيغة الجمع فعبارة عن الرحمة؛ إلا في قوله تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾(يونس:22)
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| |
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:53 am | |
| كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ------------------------------------- قال الله عز وجل في حق اليهود :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾( الجمعة : 5 ) أولاً- هذا مثل ضربه الله تعالى لأحبار بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد به عموم اليهود، مَثَّلهم فيه في حملهم للتوراة، وعدم انتفاعهم بها بحمار يحمل أسفارًا. فكما أن الحمار لا ينتفع بما في تلك الأسفار من العلوم النافعة، ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب ؛ كذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة ؛ لأنهم نبذوها وراء ظهورهم، وتركوا العمل بها، واقتنعوا من العلم بأن يحملوها دون فهم، وهم يحسبون أن ادخار أسفارها، وانتقالها من بيت إلى بيت كافٍ في التبجح بها، وتحقير من لم تكن بين أيديهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾( آل عمران : 187 ). ووجه ارتباط الآية بما قبله أنه تعالى، لمَّا أثبت في الآيات السابقة التوحيد والنبوة، وبيَّن سبحانه في النبوة أنه ﴿ هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾( الجمعة : 2 )، أخذت اليهود ذلك ذريعة لإنكار سعة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث إليهم، فعند ذلك نزلت الآية. والمشهور عن اليهود أنهم كانوا ينتظرون مبعث الرسول منهم ؛ ليجمعهم بعد فرقة، وينصرهم بعد هزيمة، ويعزهم بعد ذل، ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾( البقرة : 89 ). أي : يطلبون الفتح بذلك النبي المنتظر، ويقولون : اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث،﴿ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾( البقرة : 89 ). وهكذا اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون ذلك النبي المنتظر من العرب، لا من اليهود. فقد علم الله تعالى أن اليهود قد فرغ عنصرهم من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية، وأنهم لم يعودوا يصلحون لحمل الأمانة ؛ لأنهم زاغوا وضلوا بعدما بذلت لهم كل أسباب الاستقامة والهداية، فأزاغ الله قلوبهم، فلم تعد صالحة للهدى، وكتب عليهم الضلال أبدًا لفسقهم. وفي ذلك يقول الله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾( الصف : 5 ). وبهذا انتهت قوامتهم على دين الله تعالى، وانتهى دورهم في حمل أمانته، فلم يعودوا يصلحون لهذا الأمر، وهم على هذا الزيغ والضلال، ولم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة، التي لا تحملها إلا القلوب الحيَّة، البصيرة، المدركة، الواعية، المتجردة، العاملة بما تحمل، والعالمة لما تحمل ؛ ولذلك مثَّلهم الله تعالى بالحمار الذي يحمل أسفارًا. ثانيًا- وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ مثل، وقوله :﴿ مَثَل الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ مثل آخر، وبين المثلين وجه شَبَهٍ، دلَّت عليه كاف التشبيه ؛ وهو عدم الانتفاع بما من شأنه أن يُنتفَع به انتفاعًا عظيمًا لسمو قيمته، وجلال منزلته.. وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ؛ ولذلك ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾. يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:55 am | |
| وقد أوضح الله تعالى هذا المعنى في موضع آخر، فقال :﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(البقرة : 146 ). فأخبر سبحانه أنهم يعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم بالأوصاف المذكورة في كتابهم بأنه النبي الموعود ؛ كما يعرفون أبناءهم، بحيث لا يلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم. وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلاً منهما يتعذر الاشتباه فيه، ومع ذلك فقد جحد فريق منهم رسالته، ولم تنفعهم معرفتهم به. فبنوا إسرائيل﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾. أي : كُلِّفوا أن يقوموا بحقها ﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾. أي : لم يفوا بما كلفوا به، ولم يعملوا بموجبه ؛ لأن حملَ التوراة يبدأ أولاً بالفهم والفقه والإدراك، وينتهي ثانيًا بالعمل ؛ لتحقيق مدلولها في عالم الضمير، وعالم الواقع، ولكن سيرة بني إسرائيل- كما عرضها القرآن الكريم، وكما هي في حقيقتها- لا تدل على أنهم قدَّروا هذه الأمانة حقَّ قدرها، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثَمَّ كان مثلهم في ذلك ؛ كمثل الحمار يحمل أسفارًا.. بل كانوا أسوأ حالاً من حال ذلك الحمار ؛ لأن الحمار لا فَهْمَ له ولا فقه ولا إدراك، فهو لا يدري : أسفرٌ على ظهره، أم صخر، أم غير ذلك ؟ وهؤلاء القوم لهم قلوب وعقول ؛ ولكنهم لم يستعملوها فيما ينفعهم ؛ بل استعملوها فيما يضرهم، فأوَّلوا التوراة، وبدلوا فيها، وحرفوا ؛ ولهذا كانوا :﴿كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾( الأعراف : 179 ). وفي التعبير عن تكليفهم العمل بما في التوراة، وعن تركهم لذلك التكليف بقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ إشعارٌ بأن هذا التكليف منه جل وعلا لهم، كان عهدًا مؤكدًا عليهم، حتى لكأنهم تحملوه ؛ كما يتحمل الإنسان شيئًا قد وضع فوق ظهره، أو كتفيه، ولكنهم نبذوا هذا العهد، وألقوا بما فوق أكتافهم من أحمال، وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم انقياد الأعمى لقائده. فقوله تعالى :﴿ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ﴾ ليس من الحِمل على الظهر، وإن كان مشتقًّا منه ؛ وإنما هو من الحَمالة، بفتح الحاء، بمعنى : الكفالة والضمان. ومنه قيل للكفيل : الحَميل. و﴿ ثُمَّ ﴾ في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ أداة عطف للتراخي الرتبي ؛ فإن عدم وفائهم بما عُهِدَ إليهم أعجب من تحملهم لهذه العهود ؛ ونحو ذلك قوله تعالى :﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾( الأحزاب : 72 ). والأسفار واحدها : سِفْرٌ، بكسر السين، وهي الكتب الكبار الجامعة للعلوم النافعة، على ما تشعر به صيغة التنكير﴿ أَسْفَارًا ﴾. وأوثر لفظ السِّفر، لما فيه من معنى الكشف. وقد قيل : سُمِّيَ السِّفر سِفرًا ؛ لأنه إذا قرىء يسفِر يسفر عن الحقائق. أي : يبيِّنها ويوضِّحها. وقيل : يعني كتابًا، بلغة كنانة. وقيل : الكتاب بالنبطية يسمَّى : سِفْرًا. والسَّفَرَةُ، محركةً : الكَتَبَةُ، جمع : سافِر، وهو بالنَّبَطِيَّة : سافرا. والسَّفَرَةُ : كتَبَةُ الملائكة الذين يحصون الأعمال. قال الله تعالى :﴿بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾( عبس : 15 ). وما بأيديهم هو الأسفار. وجملة ﴿ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾ حال من الحمار ؛ لكونه معرفة لفظًا. أو صفة له ؛ لأن تعريفه ذهني، فهو في معنى النكرة، فيوصف بما توصف به على الأصح. ونسب أبو حيان للمحققين تعيُّنَ الحالية في مثل ذلك. ويؤيد الوصفية قراءة ابن مسعود :﴿ كَمَثَلِ حِمَارٍ ﴾، بالتنكير. ثالثًا- ولسائل أن يسأل : لماذا قال تعالى :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ ﴾، فمثَّلهم بالحمار، ولم يمثِّلهم بالإبل، فيقول :﴿ كَمَثَلِ الإِبِلِ ﴾، مع أن المشهور عن العرب أنهم يستعملون الإبل في حمل أثقالهم وأمتعتهم، وكانوا يسمُّونها : سفينة الصحراء ؟ ويجاب عن ذلك بأن الله تعالى جعل الإبل آية من آياته، ودعا إلى النظر في خلقها نظر تأمل وتفكر واعتبار، فقال سبحانه :﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾( الغاشية: 17 )، وجعلها أيضًا من شعائر دينه، فقال سبحانه :﴿ الْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾( الحج : 36 ). وأهل الكفر والضلال لا يحسُن أن يمثَّلوا بما جعله الله تعالى آية من آياته، وشعيرة من شعائره ؛ وإنما يمثَّلون بما هو مَثَلٌ للسَّوْء، وليس هناك مثلٌ أسوأ من مَثَل الحمار في هذا المقام، يمثَّلون به، فكان هذا التمثيل إشعارًا بكبر مقت الله تعالى لهم، وغضبه عليهم. وأما لفظ ﴿ الْحِمَارِ ﴾ فيقع على الذكر والأنثى، ويجمع على : حمير، وحُمُر. ويستخدم منذ القدم فــي حمل الأمتعة وحرث الأرض، وهو شديد التحمل والصبر. وتخصيصه- هنا- بالتمثيل به ؛ لأنه كالعلَم في الجهل والبَلَه والضلال، وأنه مثل في الذم البليغ والشتيمة، وكذلك هو في استعمال العرب، والحديث الشريف. ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا ».
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:57 am | |
| وإنما شبِّه هذا المتكلم بالحمار يحمل أسفارًا ؛ لأنه فاته الانتفاع بأبلغ نافع، وقد تكلف المشقة، وأتعب نفسه في حضور الجمعة. والمشبه به كذلك فاته الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه. فالجامع بينهما هو عدم الانتفاع. وعن علي بن الجعد قال :« سمعت شعبة، يقول : مَثَل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية، مَثَل الحمار عليه مِخْلاةٌ، لا عَلَفَ فيها ». وقال حماد بن سَلمَة :« من طلب الحديث، ولم يتعلم النَّحْوَ. أو قال : العربية، فهو كمَثَل الحمار تُعلَّق عليه مِخْلاةٌ، ليس فيها شعير ». ومن تجنُّب العرب لذكر الحمار مجردًا أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح باسمه، فيقولون : الطويل الأذنين. وقد عُدَّ في مساوىء الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة. ومن العرب من لا يركبه استنكافًا، وإن بلغت منه الرِّجلة. وكان عليه الصلاة والسلام يركبه تواضعًا، وتذللاً لله تبارك وتعالى. وقالوا في وصف الحمار : إذا وقفته أدلى، وإن تركته ولَّى، كثير الرَّوْث، قليل الغَوْث، لا تَرْقَأُ به الدماء، ولا تُمْهَر به النساء. وقالوا : الحمار حيوان وقِح شهْواني شبِق لدرجة أنه لا يرعوي عن مواقعة أنثاه في قارعة الطريق، على عكس غيره من الحيوانات ؛ كالجمل والخروف. ويشتهر الحمار من بين الحيوانات كلها بصوته العالي الذي يُعَدُّ من أقبح الأصوات وأوحشها، ويسمَّى صوته : نهيقًا، وأوله شهيق، وآخره زفير. وقد وصفه القرآن الكريم بأنه أنكر الأصوات على الإطلاق ؛ لما يسببه من إزعاج وأذى. قال تعالى على لسان لقمان الحكيم يعظ ابنه :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾( لقمان : 19 ). والغضُّ من الصوت هو التنقيص من رفعه وجَهارته، وهو أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه، ورفعه يؤذي السمع، ويقرع الصماخ بقوة، وربما يخرق الغشاء داخل الأذن. وقد شبِّه الرافعون أصواتهم في الآية السابقة بالحمير وأصواتهم، ولم يؤت بأداة التشبيه ؛ بل أخرج ذلك مخرج الاستعارة. وهذا أقصى المبالغة في الذم، والتنفير من رفع الصوت. وكانت العرب في الجاهلية تفتخر بجهارة الصوت، وتمدح به. قال الحسن رضي الله عنه :« كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات، فرُدَّ عليهم بأنه لو كان خيرًا، فُضِّل به الحمير ». وقال سفيان الثوري رضي الله عنه :« صياح كل شيء تسبيح ؛ إلا نهيق الحمير ». وعن صهيب- رضي الله عنه- قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« إذا نهق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم ». وفي الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« إذا سمعتهم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله ؛ فإنها رأت ملكًا. وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من الشيطان ؛ فإنه رأى شيطانًا ».
قيل : إن سبب قبحه يكمن في قلة حركته وعدوه، خلافًا للحصان الذي اشتهر بكثرة حركته، وشدة عدوه، وخفة صوته ؛ ولهذا سمِّيَ صوت الحمار نهيقًا، وسمِّيَ صوت الحصان صهيلاً. قال تعالى :﴿ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ﴾( العاديات : 1 ). والضَّبْحُ هو صوتٌ بين الصهيل والحمحمة، لا يزعج الإنسان ؛ كما يزعجه النهيق. وقد اكتسبه الحصان بفضل عدوه ؛ لأن العدو يذيب الشحوم المتراكمة حول الأحبال الصوتية، بعد أن تتعرض تلك الأحبال للإحْماء والشدِّ من خلال رياضة العدْو، فيَشْبَه ذلك شدَّ أوتار المعازف ؛ لكي تحصل على صوت عالٍ ذي نبرة رفيعة جميلة.
يتبع | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 3:59 am | |
| وأما صورة الحمار فهي صورة كريهة في القرآن والسنة، ولكراهتها حرِّمت علينا لحومها. جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله :« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل ». وروي عنه أيضًا :« أكلنا زمن خيبر الخيل، وحُمًر الوحش، ونهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي ». وفي مجمع الزوائد عن بن مسعود- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« إن نفس المؤمن تخرج رشحًا، وأن نفس الكافر تسيل ؛ كما تخرج نفس الحمار ». رابعًا- فهل بعد ذلك كله يوجد مَثَلٌ أسوأ من هذا المَثَل الذي مَثَّل الله تعالى به أولئك اليهود في جهلهم وضلالهم وتكذيبهم بالتوراة والقرآن ؟ ولهذا ذُيِّل بقوله تعالى :﴿ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ ﴾. و﴿ بِئْسَ ﴾ لفظ جامع لأنواع الذمِّ كلها، وهو ضد ﴿ نِعْمَ ﴾ في المدح، وهما جامدان، لا يتصرفان ؛ لأنهما أزيلا عن موضعهما. فنِعْم منقول من قولك : نَعِم فلان، إذا أصاب نعمة. وبِئْس منقول من بَئِس فلان، إذا أصاب بؤسًا. فإذا قلت : بِئْس الرجل، دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه. وإذا قلت : نِعْم الرجل، دللت على أنه قد استوفى المدح الذي يكون في سائر جنسه. وعليه فإن هذا المثل قد دل على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر أمثال السَّوْء. وفيه تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب، أن يتعلم معانيه، ويعلم ما فيه، ويعمل بما فيه من أمر ونهيٍ ؛ لئلا يلحقه من الذم ما لحق أولئك اليهود. فهو تنديد باليهود، وفي الوقت نفسه تحذير لعامة المسلمين من أن يكونوا كاليهود، في عدم الانتفاع بما فيه دواء من كلِّ داء، وشفاء لما في الصدور. ومن هنا قيل : هذا المثل، وإن كان قد ضرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن، أو العلم، فترك العمل به، ولم يؤده حقه، ولم يرعه حق رعايته.. روي عن ميمون بن مهران أنه قال :« يا أهل القرآن ! اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم »، ثم تلا هذه الآية. وقوله تعالى :﴿ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا ﴾ فاعل ﴿ بِئْسَ ﴾، وقد أغنى ذكره عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو مثل القوم المكذبين، فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير ؛ لأنه قد سبقه ما بيَّنه بالمثَل المذكور قبله في قوله :﴿ كَمَثَلِ الحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾، فصار إعادة لفظ المثل ثقيلاً في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من أساليب القرآن البديعة وتفنُّنانه في النظم. وقوله تعالى :﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ إخبار عنهم بأن سوء حالهم، لا يرجَى لهم منه انفكاك ؛ لأن الله تعالى حرَمَهم اللطف والعناية بإنقاذهم؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم دون نظر، وجحودهم لآيات الله تعالى دون تدبر. قال السيوطي في الدر المنثور :« أخرج ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعب، فقال : أسلم كعبٌ في زمان عمر. أقبل، وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة، فخرج إليه عمر، فقال : يا كعبُ ! أسلم. قال : ألستم تقرؤون في كتابكم :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ﴾، وأنا قد حملت التوراة. فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، فسمع رجلاً من أهلها، يقرأ هذه الآية : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ﴾( النساء : 47 ). فقال كعب : يا رب آمنت ! يا رب أسلمت ! مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع، فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين ». خامسًا- بقي أن نشير إلى أن أكثر المفسرين يجعل التشبيه في هذا المثل من قبيل التشبيه المفرد، وأن وجه الشبه فيه مفرد، وهو عدم الانتفاع بالمحمول ؛ كالتشبيه في قول الشاعر : كالعيس في البَيْداء يقتلها الظما ** والماء فوق ظهورها محمول والظاهر مما تقدم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي المركب ؛ فهو تشبيه صورة مركبة من عدة أجزاء بصورة أخرى مثلها، ووجه الشبه مركب أيضًا من مجموع كون المحمول كتبًا نافعة، وكون الحامل لها حمار لا علاقة له بها، بخلاف ما في البيت السابق ؛ لأن العيس في البيداء يمكن أن تنتفع بالماء، لو حصلت عليه. أما الحمار فلا ينتفع بالأسفار، ولو نشِرت بين عينيه. وفي ذلك إشارة أيضًا- كما تقدم- إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كليَّة أنهم وصلوا إلى حد الإياس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل بها، فنقلها الله تعالى إلى قوم أحق بها وبالقيام بأعبائها.
محمد إسماعيل عتوك | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 4:02 am | |
| لمسات بيانية في سورة الفاتحة
----------------------------------
الدكتور فاضل السامرائي
الحمد لله:
معنى الحمد:الثناء على الجميل من النعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال، فالحمد أن تذكر محاسن الغير سواء كان ذلك الثناء على صفة من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة أم على عطائه وتفضله على الآخرين. ولا يكون الحمد إلا للحي العاقل.
وهذا أشهر ما فرق بينه وبين المدح فقد تمدح جمادا ولكن لا تحمده؛ وقد ثبت أن المدح أعم من الحمد. فالمدح قد يكون قبل الإحسان وبعده؛ أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان، فالحمد يكون لما هو حاصل من المحاسن في الصفات أو الفعل فلا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد؛ أما المدح فقد يكون قبل ذلك فقد تمدح إنساناً ولم يفعل شيئا من المحاسن والجميل ولذا كان المدح منهياً عنه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"احثوا التراب في وجه المداحين" بخلاف الحمد فإنه مأمور به فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يحمد الناس لم يحمد الله".
وبذا علمنا من قوله: الحمد لله" أن الله حي له الصفات الحسنى والفعل الجميل فحمدناه على صفاته وعلى فعله وإنعامه ولو قال المدح لله لم يفد شيئا من ذلك، فكان اختيار الحمد أولى من اختيار المدح.
ولم يقل سبحانه الشكر لله لأن الشكر لا يكون إلا على النعمة ولا يكون على صفاته الذاتية فانك لا تشكر الشخص على علمه أو قدرته وقد تحمده على ذلك وقد جاء في لسان العرب "والحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية وعلى عطائه ولا تشكره على صفاته.فكان اختيار الحمد أولى أيضاً من الشكر لأنه أعم فانك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك والى الخلق جميعا وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية وان لم يتعلق شيء منها بك. فكان اختيار الحمد أولى من المدح والشكر.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه قال: الحمد لله ولم يقل أحمد الله أو نحمد الله وما قاله أولى من وجوه عدة:
إن القول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مختص بفاعل معين ففاعل أحمد هو المتكلم وفاعل نحمد هم المتكلمون في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا أولى فإنك إذا قلت " أحمد الله " أخبرت عن حمدك أنت وحدك ولم تفد أن غيرك حمده وإذا قلت " نحمد الله " أخبرت عن المتكلمين ولم تفد أن غيركم حمده في حين أن عبارة "الحمد لله" لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق منك ومن غيرك.
وقول " أحمد الله " تخبر عن فعلك أنت ولا يعني ذلك أن من تحمده يستحق الحمد؛ في حين إذا قلت " الحمد لله" أفاد ذلك استحقاق الحمد لله وليس مرتبط بفاعل معين.
وقول " أحمد الله " أو " نحمد الله " مرتبط بزمن معين لأن الفعل له دلالة زمنية معينة، فالفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير الزمان الذي تحمده فيه، ولا شك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود وهكذا كل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله أن يكون مرتبطا بعمره ولا يكون قبل ذلك وبعده فعل فيكون الحمد أقل مما ينبغي فإن حمد الله لا ينبغي أن ينقطع ولا يحد بفاعل أو بزمان في حين أن عبارة "الحمد لله" مطلقة غير مقيدة بزمن معين ولا بفاعل معين فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
جاء في تفسير الرازي أنه لو قال " احمد الله " أفاد ذلك كون القائل قادرا على حمده، أما لما قال "الحمد لله" فقد أفاد ذلك، أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أم لم يحمدوا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم.
وقول "أحمد الله" جملة فعلية و"الحمد لله" جملة اسمية والجملة الفعلية تدل على الحدوث والتجدد في حين أن الجملة الاسمية دالة على الثبوت وهي أقوى وأدوم من الجملة الفعلية. فاختيار الجملة الاسمية أولى من اختيار الجملة الفعلية ههنا إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.
وقول "الحمد لله" معناه أن الحمد والثناء حق لله وملكه فانه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد. فقولنا "الحمد لله" معناه أن الحمد لله حق يستحقه لذاته ولو قال "احمد الله" لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد بذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاً واحداً حمده. | |
|
| |
منى الراوي مراقب عام
برجي هو : عدد المساهمات : 1609 نقاط : 2255 السٌّمعَة : 36 تاريخ التسجيل : 22/06/2010
| موضوع: رد: الاعجاز اللغوي والبياني الأربعاء يوليو 07, 2010 4:05 am | |
| والحمد: عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال. فإذا تلفظ الإنسان بقوله: "أحمد الله" مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع انه ليس كذلك. أما إذا قال "الحمد لله" سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقاً لأن معناه: أن الحمد حق لله وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن. فثبت أن قوله "الحمد لله" أولى من قوله أحمد الله أو من نحمد الله. ونظيره قولنا "لا اله إلا الله" فانه لا يدخل في التكذيب بخلاف قولنا "اشهد أن لا اله إلا الله" لأنه قد يكون كاذبا في قوله "أشهد" ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين: "والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" (المنافقون، آية 1)
فلماذا لم يقل " الحمدَ لله " بالنصب؟
الجواب أن قراءة الرفع أولى من قراءة النصب ذلك أن قراءة الرفع تدل على أن الجملة اسمية في حين أن قراءة النصب تدل على أن الجملة فعلية بتقدير نحمد أو احمد أو احمدوا بالأمر. والجملة الاسمية أقوى وأثبت من الجملة الفعلية لأنها دالة على الثبوت.
وقد يقال أليس تقدير فعل الأمر في قراءة النصب أقوى من الرفع بمعنى "احمدوا الحمد لله" كما تقول "الإسراع في الأمر" بمعنى أسرعوا؟ والجواب لا فإن قراءة الرفع أولى أيضاً ذلك لان الأمر بالشيء لا يعني أن المأمور به مستحق للفعل. وقد يكون المأمور غير مقتنع بما أمر به فكان الحمد لله أولى من الحمد لله بالنصب في الأخبار والأمر.
ولماذا لم يقل " حمداً لله " ؟ الحمد لله معرفة بأل و" حمداً " نكرة؛ والتعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير ذلك أن "أل" قد تكون لتعريف العهد فيكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله، وقد يكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق فيدل على استغراق الأحمدة كلها. ورجح بعضهم المعنى الأول ورجح بعضهم المعنى الثاني بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله" فدل على استغراق الحمد كله فعلى هذا يكون المعنى: أن الحمد المعروف بينكم هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه.
"الحمد لله" أهي خبر أم إنشاء؟ الخبر هو ما يحتمل الصدق أو الكذب والإنشاء هو ما لا يحتمل الصدق أو الكذب.
قال أكثر النحاة والمفسرين: أن الحمد لله إخبار كأنه يخبر أن الحمد لله سبحانه وتعالى، وقسم قال: أنها إنشاء لأن فيها استشعار المحبة وقسم قال: أنها خبر يتضمن إنشاء.
أحيانا يحتمل أن تكون التعبيرات خبرا أو إنشاء بحسب ما يقتضيه المقام الذي يقال فيه.فعلى سبيل المثال قد نقول (رزقك الله) ونقصد بها الدعاء وهذا إنشاء وقد نقول (رزقك الله وعافاك) والقصد منها أفلا تشكره على ذلك؟ وهذا خبر.
والحمد لله هي من العبارات التي يمكن أن تستعمل خبرا وإنشاء بمعنى الحمد لله خبر ونستشعر نعمة الله علينا ونستشعر التقدير كان نقولها عندما نستشعر عظمة الله سبحانه في أمر ما فنقول الحمد لله.
فلماذا لم يقل سبحانه " إن الحمد لله " ؟ لا شك أن الحمد لله لكن هناك فرق بين التعبيرين أن نجعل الجملة خبراً محضا في قول الحمد لله (ستعمل للخبر أو الإنشاء) ولكن عندما تدخل عليه " إن " لا يمكن إلا أن يكون إنشاء، لذا فقول " الحمد لله " أولى لما فيه من الإجلال والتعظيم والشعور بذلك. لذا جمعت الحمد لله بين الخبر والإنشاء ومعناهما، مثلا نقول رحمة الله عليك (هذا دعاء) وعندما نقول إن رحمة الله عليك فهذا خبر وليس دعاء
من المعلوم انه في اللغة قد تدخل بعض الأدوات على عبارات فتغير معناها مثال: رحمه الله (دعاء)، قد رحمه الله (إخبار)، رزقك الله (دعاء)، قد رزقك الله (إخبار | |
|
| |
| الاعجاز اللغوي والبياني | |
|