في هديه صلى اللهعليه وسلم في علاج الرمد بالسكون ، والدعة ، وترك الحركة ، والحمية مما يهيج الرمد
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم حمىصهيباً من التمر ، وأنكر عليه أكله ، وهو أرمد ، وحمى علياً من الرطب لما أصابهالرمد .
وذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتىتبرأ عينها .
الرمد : ورم حار يعرض في الطبقة الملتحمةمن العين ، وهو بياضها الظاهر ، وسببه انصباب أحد الأخلاط الأربعة ، أو ريح حارةتكثر كميتها في الرأس والبدن ، فينبعث منها قسط إلى جوهر العين ، أو ضربة تصيبالعين ، فترسل الطبيعة إليها من الدم والروح مقداراً كثيراً تروم بذلك شفاءها مماعرض لها ، ولأجل ذلك يرم العضو المضروب ، والقياس يوجب ضده .
واعلم أنه كما يرتفع من الأرض إلى الجوبخاران ، أحدهما : حار يابس ، والآخر : حار رطب ، فينعقدان سحاباً متراكماً ،ويمنعان أبصارنا من إدراك السماء ، فكذلك يرتفع من قعر المعدة إلى منتهاها مثل ذلك، فيمنعان النظر ، ويتولد عنهما علل شتى ، فإن قويت الطبيعة على ذلك ودفعته إلىالخياشيم ، أحدث الزكام ، وإن دفعته إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخناق ، وإن دفعتهإلى الجنب ، أحدث الشوصة ، وإن دفعته إلى الصدر ، أحدث النزلة ، وإن انحدر إلىالقلب ، أحدث الخبطة ، وإن دفعته إلى العين أحدث رمداً ، وإن انحدر إلى الجوف ،أحدث السيلان ، وإن دفعته إلى منازل الدماغ أحدث النسيان ، وإن ترطبت أوعيةالدماغ منه ، وامتلأت به عروقه أحدثالنوم الشديد ، ولذلك كان النوم رطباً ، والسهر يابساً . وإن طلب البخار النفوذ منالرأس ، فلم يقدر عليه ، أعقبه الصداع والسهر ، وإن مال البخار إلى أحد شقي الرأس، أعقبه الشقيقة ، وإن ملك قمة الرأس ووسط الهامة . أعقبه داء البيضة ، وإن بردمنه حجاب الدماغ ، أو سخن ، أو ترطب وهاجت منه أرياح ، أحدث العطاس ، وإن أهاجالرطوبة البلغمية فيه حتى غلب الحار الغريزي ، أحدث الإغماء والسكات ، وإن أهاجالمرة السوداء حتى أظلم هواء الدماغ ، أحدث الوسواس ، وإن فاض ذلك إلى مجاري العصب، أحدث الصرع الطبيعي ، وإن ترطبت مجامع عصب الرأس وفاض ذلك في مجاريه ، أعقبهالفالج ، وإن كان البخار من مرة صفراء ملتهبة محمية للدماغ ، أحدث البرسام ، فإنشركه الصدر في ذلك ، كان سرساماً ، فافهم هذا الفصل .
والمقصود : أن أخلاط البدن والرأس تكونمتحركة هائجة في حال الرمد ، والجماع مما يزيد حركتها وثورانها ، فإنه حركة كليةللبدن والروح والطبيعة . فأما البدن ، فيسخن بالحركة لا محالة ، والنفس تشتدحركتها طلباً للذة واستكمالها ، والروح تتحرك تبعاً لحركة النفس والبدن ، فإن أولتعلق الروح من البدن بالقلب ، ومنه ينشأ الروح ، وتنبث في الأعضاء . وأما حركةالطبيعة ، فلأجل أن ترسل ما يجب إرساله من المني على المقدار الذي يجب إرساله .
وبالجملة : فالجماع حركة كلية عامة يتحركفيها البدن وقواه ، وطبيعته وأخلاطه ، والروح والنفس ، فكل حركة فهى مثيرة للأخلاطمرققة لها توجب دفعها وسيلانها إلى الأعضاء الضعيفة ، والعين في حال رمدها أضعف ماتكون ، فأضر ما عليها حركة الجماع .
قال بقراط في كتاب الفصول : وقد يدل ركوب السفن أن الحركة تثور الأبدان . هذا مع أن في الرمد منافعكثيرة ، منها ما يستدعيه من الحمية والإستفراغ ، وتنقية الرأس والبدن من فضلاتهماوعفوناتهما ، والكف عما يؤذي النفس والبدن من الغضب ، والهم والحزن ، والحركاتالعنيفة ، والأعمال الشاقة . وفي أثر سلفي : لا تكرهوا الرمد ، فإنه يقطع عروقالعمى .
ومن أسباب علاجه ملازمة السكون والراحة ،وترك مس العين والإشتغال بها ، فإن أضداد ذلك يوجب انصباب المواد إليها . وقد قالبعض السلف : مثل أصحاب محمد مثل العين ، ودواء العين ترك مسها . وقد روي في حديثمرفوع ، الله أعلم به : " علاج الرمد تقطير الماء البارد في العين " وهومن أنفع الأدوية للرمد الحار ، فإن الماء دواء بارد يستعان به على إطفاء حرارةالرمد إذا كان حاراً ، ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لامرأته زينب وقداشتكت عينها : لو فعلت كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خيراً لك وأجدرأن تشفي ، تنضحين في عينك الماء ، ثم تقولين : " أذهب البأس رب الناس ، واشفأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لايغادر سقماً " . وهذا مما تقدم مراراً أنه خاص ببعض البلاد ، وبعض أوجاعالعين ، فلا يجعل كلام النبوة الجزئي الخاص كلياً عاماً ، ولا الكلي العام جزئياًخاصاً ، فيقع من الخطأ ، وخلاف الصواب ما يقع ، والله أعلم .