ربما لا يفرحنا الخبر، لكنه الحقيقة الباردة للأسف.
فقد تسارع العد التنازلي للحظة هدم المسجد الأقصى، ولن يندهش أحد إذا تحول
هدم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين إلى خبر صادم بعد طول التوقع
البليد الراكد.من زمن، تحول الأقصى الشريف إلى 'مسجد معلق' بتعبير أحد
كبار الآثاريين العرب، لا تنقصه سوى هزة ينهار بعدها، أنهكته الحفريات
الإسرائيلية المتصلة تحت أساساته، والإغارات المنتظمة على بنيانه،
والاستعدادات الجارية لبناء 'هيكل سليمان' على أنقاضه، وبدءا بإقامة 'كنيس
يهودي' توقع الشيخ رائد صلاح أن يتم تشييده هذا العام.
ولم تعد إسرائيل تخشى ردود الفعل المتوقعة فلسطينيا أو عربيا أو إسلاميا،
فقد أجرت 'بروفة' أخيرة، واختبرت نهايات الطرق بقرارها ضم الحرم
الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح في الخليل إلى قائمة التراث اليهودي، وعدا
مظاهرات غضب محدود للفلسطينيين، فقد مرت الكارثة بهدوء، وكأن لاشيء حدث،
وصدرت تمتمات ـ أشبه بالاستنكارات ـ عن الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر
الإسلامي، وأقوال 'برو عتب' صدرت عن الملوك والرؤساء والأمراء، ثم كان
الرد الحاسم بردا وسلاما على قلب إسرائيل، فقد قررت الجامعة العربية تغطية
رغبة عباس في استئناف المفاوضات مع نتنياهو، والعودة للنكات السخيفة
إياها، عن جولات جورج ميتشل، وعن عطف الرئيس أوباما، وعن لقاءات مع جوزيف
بايدن نائب الرئيس الأمريكي، والذي أكد التزام أمريكا المطلق بأمن
إسرائيل، ونعت حركات المقاومة بالإرهاب.
فماذا نتوقع ـ إذن ـ لحظة إعلان نبأ هدم المسجد الأقصى؟ لاشيء أكثر مما
تعرف، بسالة محاصرة للفلسطينيين المقدسيين، وبكائيات مشايخ في الفضائيات،
ودعوات لتسيير مظاهرات ضخمة في العالم العربي والإسلامي، وتقدم قوات أمن
النظم لقمع المظاهرات، وشروع في دعوات لاجتماعات طارئة في الجامعة العربية
والمؤتمر الإسلامي، ونصائح من أمريكا بضبط النفس، وربما قمة طارئة للحكام
تنتهي ـ كالعادة ـ بترديد معزوفة السلام. .. خيارنا الاستراتيجي. هل بالغت
ـ قليلا أو كثيرا ـ في تصوير ردود الفعل المتوقعة؟ ربما، وربما تنتهي
القصة وقتها إلى تسويات عبقرية، كأن يجري تقسيم مساحة المسجد الأقصى بين
المسلمين واليهود، أو أن يسمح للمسلمين بأداء الصلاة في هيكل سليمان، أو
أن يجري تعيين حاخام يهودي شيخا للمسجد الأقصى، وإعلان الوحدة الاندماجية
بين الدين اليهودي والدين الإسلامي.
قد تبدو الصورة المتوقعة كابوسية، لكنها كذلك من الآن، ودون حاجة لانتظار
وقوع المكروه، فلا السلطة الفلسطينية فلسطينية، ولا السلطات العربية كذلك،
وفي كل العواصم ضباط أمن ومفرغات صواعق، وأمريكا هي ربهم المعبود، والبيت
الأبيض هو مسجدهم الأقصى، وطاعة إسرائيل فريضة مرعية، وقمع الناس هو
الصلوات الخمس، ووضع الأحذية في الأفواه هو واجب الوقت.
السلطة الفلسطينية غير مشغولة بالأقصى، ولا بالقدس، ولا باللاجئين، ولا
بالحدود، ولا بالمياه، ولا حتى بتوحش الاستيطان اليهودي في القدس والضفة
الغربية، شيء واحد يشغل بال الرئيس عباس، وهو كيف يضمن اتصال الرضا
الأمريكي والإسرائيلي، ويضمن تدفق معونات اللجنة الرباعية، وجدول أعماله
معروف، عليه دائما أن يبدو كفلسطيني من متحف الشمع، وأن يتحدث عن الحقوق
الفلسطينية بلا انقطاع، وأن يبيعها بلا توقف، وأن ينهض إلى روتينه
المعتاد، مرة للقاء مسؤول أمريكي في رام الله، ومرة للقاء صديقه مبارك في
القاهرة، ومرات للقاءات مع جورج ميتشل في الغرف المغلقة، وترديد نفس
الكلام في المؤتمرات الصحافية، والانتهاء إلى ذات النتائج، والتفاوض لمجرد
التفاوض، فقد تحول التفاوض الفلسطيني إلى حرفة في ذاته، ولها دوائرها
ومخصصاتها المالية المتضخمة، وبدلات وحوافز التمثيل والديكور والملابس
وزهور الزينة، والحديث عن التعنت الإسرائيلي أحيانا، وعن أزمات في
المفاوضات، ثم العودة للدوران في لعبة الحلقات المفرغة، والانتقال من
المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة وبالعكس، ثم لاشيء إلا ما
تصنعه إسرائيل على الأرض، استكمال لتهويد القدس، والتهويد المتصل للضفة،
واعتقال الناشطين الذين يفكرون في ارتكاب معصية المقاومة، والاطمئنان لدعم
الجنرال دايتون، وفتح النار على حركة حماس، وكأنها هي التي تحتل الأرض
وتقيم المستوطنات وتهدد بهدم المسجد الأقصى.
وفي قصور الحكم وعواصم العرب، لايبدو أحد مهتما بقضية فلسطين، ولا بالمسجد
الأقصى، فقد انفكت الصلة من زمن، كانت النظم ـ زمان ـ تبدي عطفا على قضية
فلسطين، تناصرها، أو تتظاهر بنصرتها، وعلى سبيل اختصار الطرق إلى كسب عطف
الشعوب، لكن الشعوب لم تعد تهم أحدا، فهي لا تنتخب أحدا ولا تقيله، والذي
يخفض ويرفع هو السيد الأمريكي، فليس للنظم العربية مجمع انتخابي داخلي،
ومجمعها الانتخابي الافتراضي عنوانه معروف، وهو الرعاية الأمريكية
الإسرائيلية، ومعادلة البقاء صارت مرعية، ومنطوقها بسيط، وهو : إخدم
إسرائيل تكسب رضا الباب العالي في واشنطن، وتتجدد لك أوراق الاعتماد
وتراخيص القيادة، البعض يخدم إسرائيل على نحو مباشر، ويدفع 'الجزية' علنا
وعلى رؤوس الأشهاد، ويدمج قوات أمنه في مفهوم الأمن الإسرائيلي، والبعض
يخدم من وراء ستار، ويستغني عن صداقة الموساد بصداقة المخابرات المركزية
الأمريكية، والوحدة الإندماجية مع رغبات إسرائيل لها الأولوية، فقد تحولت
النظم العربية ـ في غالبها ـ إلى حليف ضمني أو ظاهر لإسرائيل، وتحت
القيادة الأمريكية المشتركة، والشراكة في المجهود الحربي والمخابراتي
ظاهرة، وباتجاه التعبئة ضد إيران بالذات، وأحيانا يجري استيراد أوراق توت،
وبهدف تغطية العورات المكشوفة، وتأليف روايات غاية في الفجاجة عن
المفاوضات تلو المفاوضات، واستئناف المفاوضات بعد توقف المفاوضات، واكتشاف
العلة والعقبة التي هي في حركات المقاومة، وليست في إسرائيل، وفتح النار
على حزب الله وحركة حماس وحركة الجهاد والجبهة الشعبية، واعتبارها ضارة
بمبادرة السلام العربية، والتي يشاع ـ زيفا ـ أنها مقايضة للسلام مقابل
الأرض، بينما المعنى المرئي لها تحول من زمن، وصرنا بصدد مبادلة السلام مع
إسرائيل مقابل سلامة حكامنا، وما دام حكامنا في خير وسلامة، فكل شيء في
مكانه، وحتى لو تحولت دورة النجوم، وجرى هدم المسجد الأقصى، وأصبح كل الذي
هو عربي ناطقا بالعبرية.
ما نقوله ليس دعوة لليأس، فلدينا من اليأس ما يكفي ويزيد، لكنها دعوة
لليقظة، ومغادرة خيمة البلادة، والاعتصام بالثقة في نصر الله، وتطليق
الرجاء في النظم، فقد انتهت النظم إلى طرف ثالث يستقوي بأمريكا وإسرائيل،
تحولت إلى طرف مشارك في عدوان ثلاثي ضد الأمة بشرا وحجرا، والمطلوب: إعلان
الحرب على النظم بموازاة الحرب ضد أمريكا وإسرائيل، والاحتشاد وراء حركات
المقاومة بالسلاح في فلسطين ولبنان والعراق، ودعم المقاومة بالسلاح
بمقاومة بالسياسة ضد النظم، هذا إن كنا نغضب حقا للمسجد الأقصى، ولا ننتظر
نبأ هدمه على شريط الأخبار، ثم نكفكف الدمع بالريموت كنترول .
بقلم : عبد الحليم قنديل