في هديه صلى الله عليه وسلم في التحرز منالأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها
ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله ، أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم :" ارجع فقد بايعناك " .
وروى البخاري في صحيحه تعليقاً من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "فر من المجذوم كما تفر من الأسد " .
وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس ،أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تديموا النظر إلى المجذومين " .
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يوردن ممرض على مصح " .
ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم : "كلم المجذوم ، وبيك وبينه قيد رمح أو رمحين " .
الجذام : علة رديئة تحدث من انتشار المرةالسوداء في البدن كله ، فيفسد مزاج الأعضاء وهيئتها وشكلها ، وربما فسد في آخرهاتصالها حتى تتأكل الأعضاء وتسقط ، ويسمى داء الأسد .
وفي هذه التسمية ثلاثة أقوال للأطباء :أحدها : أنها لكثرة ما تعتري الأسد .
والثاني : لأن هذه العلة تجهم وجه صاحبهاوتجعله في سحنة الأسد .
والثالث : أنه يفترس من يقربه ، أو يدنومنه بدائه افتراس الأسد .
وهذه العلة عند الأطباء من العلل المعديةالمتوارثة ، ومقارب المجذوم ، وصاحب السل يسقم برائحته ، فالنبي صلى الله عليهوسلم لكمال شفقته على الأمة ، ونصحه لهم نهاهم عن الأسباب التي تعرضهم لوصول العيبوالفساد إلى أجسامهم وقلوبهم ، ولا ريب أنه قد يكون في البدن تهيؤ واستعداد كامنلقبول هذا الداء ، وقد تكون الطبيعة سريعة الإنفعال قابلة للإكتساب من أبدان منتجاوره وتخالطه ، فإنها نقالة ، وقد يكون خوفها من ذلك ووهمها من أكبر أسباب إصابةتلك العلة لها ، فإن الوهم فعال مستول على القوى والطبائع ، وقد تصل رائحة العليلإلى الصحيح فتسقمه ، وهذا معاين في بعض الأمراض ، والرائحة أحد أسباب العدوى ، ومعهذا كله فلا بد من وجود استعداد البدن وقبوله لذلك الداء ، وقد تزوج النبي صلىالله عليه وسلم امرأة ، فلما أراد الدخول بها ، وجد بكشحها بياضاً ، فقال : "الحقي بأهلك " .
وقد ظن طائفة من الناس أن هذه الأحاديثمعارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها ، فمنها : ما رواه الترمذي ، من حديث جابر ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد رجل مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ،وقال : " كل بسم الله ثقة بالله ، وتوكلاً عليه " ، ورواه ابن ماجه .
وبما ثبت في الصحيح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عدوىولا طيرة " .
ونحن نقول : لا تعارض بحمد الله بين أحاديثهالصحيحة . فإذا وقع التعارض ، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى اللهعليه وسلم وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً ، فالثقة يغلظ ، أو يكون أحدالحديثين ناسخاً للآخر إذا كان مما يقبل النسخ ، أو يكون التعارض في فهم السامع ،لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم ، فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة .
وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كلوجه ، ليس أحدهما ناسخاً للآخر ، فهذا لا يوجد أصلاً ، ومعاذ الله أن يوجد في كلامالصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق ، والآفة من التقصير في معرفةالمنقول ، والتمييز بين صحيحه ومعلوله ،أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أومنهما معاً ، ومن ها هنا وقع من الإختلاف والفساد ما وقع ، وبالله التوفيق .
قال ابن قتيبة في كتاب اختلاف الحديث له حكاية عن أعداء الحديث وأهله ، قالوا : حديثان متناقضان رويتم عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عدوى ولا طيرة " . وقيل له : إنالنقبة تقع بمشفر البعير ، فيجرب لذلك الإبل . قال : " فما أعدى الأول "، ثم رويتم " لا يورد ذو عاهة على مصح ، وفر من المجدوم فرارك من الأسد" ، وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام ، فأرسل إليه البيعة ، وأمرهبالإنصراف ، ولم يأذن له ، وقال : " الشؤم في المرأة والدار والدابة " .قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضاً .
قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس فيهذا اختلاف ، ولكل معنى منها وقت وموضع ، فإذا وضع موضعه زال الإختلاف .
والعدوى جنسان : أحدهما : عدوى الجذام ،فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومحادثته ، وكذلك المرأة تكونتحت المجذوم ، فتضاجعه في شعار واحد ، فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت ، وكذلكولده ينزعون في الكبر إليه ، وكذلك من كان به سل ودق ونقب . والأطباء تأمر أن لايجالس المسلول ولا المجذوم ، ولا يريدون بذلك معنى العدوى ، وإنما يريدون به معنىتغير الرائحة ، وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها ، والأطباء أبعد الناس عن الايمانبيمن وشؤم ، وكذلك النقبة تكون بالبعير - وهو جرب رطب - فإذا خالط الإبل أو حاكها، وأوى في مباركها ، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه ، وبالنطف نحو ما به ، فهذاهو المعنى الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يورد ذو عاهة علىمصح " ، كره أن يخالط المعيوه الصحيح ، لئلا يناله من نطفه وحكته نحو مما به.
قال : وأما الجنس الآخر من العدوى ، فهوالطاعون ينزل ببلد ، فيخرج منه خوف العدوى ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "إذا وقع ببلد ، وأنتم به ، فلا تخرجوا منه ، وإذا كان ببلد ، فلا تدخلوه "يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرار من قدر اللهينجيكم من الله ، ويريد إذا كان ببلد ، فلا تدخلوه ، أي : مقامكم في الموضع الذيلا طاعون فيه أسكن لقلوبكم ، وأطيب لعيشكم ، ومن ذلك المرأة تعرف بالشؤم أو الدار، فينال الرجل مكروه أو جائحة ، فيقول : أعدتني بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذي قالفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى " .
وقالت فرقة أخرى : بل الأمر باجتنابالمجذوم والفرار منه على الإستحباب ، والإختيار ، والإرشاد ، وأما الأكل معه ،ففعله لبيان الجواز ، وأن هذا ليس بحرام .
وقالت فرقة أخرى : بل الخطاب بهذينالخطابين جزئي لا كلي ، فكل واحد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله ،فبعض الناس يكون قوي الإيمان ، قوي التوكل تدفع قوة توكله قوة العدوى ، كما تدفعقوة الطبيعة قوة العلة فتبطلها ، وبعض الناس لا يقوى على ذلك ، فخاطبه بالإحتياطوالأخذ بالتحفظ ، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم فعل الحالتين معاً ، لتقتدي بهالأمة فيهما ، فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكل والقوة والثقة بالله ، ويأخذ منضعف منهم بطريقة التحفظ والإحتياط ، وهما طريقان صحيحان . أحدهما : للمؤمن القوي ،والآخر للمؤمن الضعيف ، فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة وقدوة بحسب حالهم ومايناسبهم ، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم كوى ، وأثنى على تارك الكي ، وقرن تركهبالتوكل ، وترك الطيرة ، ولهذا نظائر كثيرة ، وهذه طريقة لطيفة حسنة جداً منأعطاها حقها ، ورزق فقه
نفسه فيها ، أزالت عنه تعارضاً كثيراًيظنه بالسنة الصحيحة .
وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه، ومجانبته لأمر طبيعي ، وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحةإلى الصحيح ، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له ، وأما أكله معه مقداراًيسيراً من الزمان لمصلحة راجحة ، فلا بأس به ، ولا تحصل العدوى من مرة واحدة ولحظةواحدة ، فنهى سداً للذريعة ، وحماية للصحة ، وخالطه مخالطة ما للحاجة والمصلحة ،فلا تعارض بين الأمرين .
وقالت طائفة أخرى : يجوز أن يكون هذاالمجذوم الذي أكل معه به من الجذام أمر يسير لا يعدي مثله ، وليس الجذمى كلهمسواء، ولا العدوى حاصلة من جميعهم ، بل منهم من لا تضر مخالطته ، ولا تعدي ، وهومن أصابه من ذلك شئ يسير ، ثم وقف واستمر على حاله ، ولم يعد بقية جسمه ، فهو أنلا يعدي غيره أولى وأحرى .
وقالت فرقة أخرى : إن الجاهلية كانت تعتقدأن الأمراض المعدية تعدي بطبعها من غير إضافة إلى الله سبحانه ، فأبطل النبي صلىالله عليه وسلم اعتقادهم ذلك ، وأكل مع المجذوم ليبين لهم أن الله سبحانه هو الذييمرض ويشفي ، ونهى عن القرب منه ليتبين لهم أن هذا من الأسباب التي جعلها اللهمفضية إلى مسبباتها ، ففي نهيه إثبات الأسباب ، وفي فعله بيان أنها لا تستقل بشئ ،بل الرب سبحانه إن شاء سلبها قواها ، فلا تؤثر شيئاً ، وإن شاء أبقى عليها قواهافأثرت .
وقالت فرقة أخرى : بل هذه الأحاديث فيهاالناسخ والمنسوخ ، فينظر في تاريخها ، فإن علم المتأخر منها ، حكم بأنه الناسخ ،وإلا توقفنا فيها .
وقالت فرقة أخرى : بل بعضها محفوظ ،وبعضها غير محفوظ ، وتكلمت في حديث لاعدوى ، وقالت : قد كان أبو هريرة يرويهأولاً ، ثم شك فيه فتركه ، وراجعوه فيه ، وقالوا : سمعناك تحدث به ، فأبى أن يحدثبه .
قال أبو سلمة : فلا أدري ، أنسي أبو هريرة، أم نسخ أحد الحديثين الآخر ؟وأما حديث جابر : أن النبي صلى الله عليهوسلم أخذ بيد مجذوم ، فأدخلها معه في القصعة ، فحديث لا يثبت ولا يصح ، وغاية ماقال فيه الترمذي : إنه غريب ، لم يصححه ولم يحسنه . وقد قال شعبة وغيره : اتقواهذه الغرائب . قال الترمذي : ويروى هذا من فعل عمر ، وهو أثبت ، فهذا شأن هذينالحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي ، أحدهما : رجع أبو هريرة عن التحديث بهوأنكره ، والثاني : لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم ، وقدأشبعنا الكلام في هذه المسألة في كتاب المفتاح بأطول من هذا ، وباللهالتوفيق .